إلى جانب الفصل 2 م.إ.ع الذي يعتبر الرضاء ركن أساسي من أركان العقد فإنه على معني الفصل 23 من نفس المجلة شرط من شروط قيام العقد.
حيث يؤخذ من هذا الفصل وجوب أن يتم التراضي على أركان العقد المراد ابرامه وعلى شروطه الأساسية.
فلا يقوم العقد سوى بتلاقي ارادة الطرفين حول هذه الشروط.
ويحصل تلاقي الإرادتين بتلاقي إرادة بإرادة أخرى مطابقة لها بحيث يتمّ الاقتران بين العرض أو الإيجاب الذي بادر به أحد الطرفين بقبول من الطرف الآخر.
هذا التلاقي قد يكون ماديا وقد يكون افتراضيّا حيث يتخذ الرضاء شكلا إلكترونيا بمعني أنه بعد الاطلاع على مضمون العرض يعبر المتعاقد عن ارادته وعن رضاه بمجرد الضغط في المكان المخصص لذلك.
وفي كل الحالات فإن التصريح بالرضا يتمّ عبر تقنيتي الإيجاب والقبول.
L’offre : أ- الإيجاب
تعبير بات عن الإرادة يعرض فيه شخص يسمّى الموجب على شخص آخر يصطلح عليه بالموجب له التعاقد بشروط معينة. ويجب أن تتوفر في الإيجاب شروطا معينة لكي ينتج آثاره.
-1 شروطه أو خصائصه
يؤخذ من تعريف الإيجاب أنه يقتضي اجتماع شرطين.
يتمثل الشرط الأول في الحسم. يجب أن يحتوي الإيجاب على تعبير بات عن الإرادة. فلا بد من أن يشتمل على عرض حاسم ينطوي عن ارادة باتة ونهائية في التعاقد. فالعرض يجب أن يكون معبرا عن نية قاطعة وإرادة واضحة في الالتزام لا لبس فيها.
يتمثل الشرط الثاني في الدقة. يجب أن يكون العرض محدّدا أي متضمّنا للعناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه بحيث يكفي اقترانه بالقبول ليقوم العقد. فإن تعلق العرض ببيع شيء يجب أن يتضمن بيان المبيع والثمن.
ولا يشترط مبدئيا في الإيجاب أن يكون عرضا موجها إلى شخص معين. فقد يكون موجه إلى شخص غير
معين أو موجه للعموم فيتضمّن نيّة التعاقد مع أي شخص يبدي رغبته في قبوله. من ذلك الإيجاب الموجه من التاجر إلى المستهلكين أو الإعلان بالجرائد. إلا أنه إذا تعلق العرض الموجه للعموم بعقد يقوم على الاعتبار الشخصي فإنه في هذه الحالة لا يعتبر إيجابا لأنّ صاحب العرض يحتفظ لنفسه بحق اختيار الشخص.
ذلك أن مجرّد استجابة الشخص للعرض لا يكفي لإتمام العقد بل يجب موافقة صاحب العرض على هذا الشخص.
هذه الخصائص أو الشروط تميزه عن الدعوة للتعاقد التي تفترض دعوة شخص للتفاوض حول إبرام عقد.
فقد تقتضي ابرام العقود الهامة مفاوضات ومشاورات قد تنتهي إلى الإيجاب وقد لا تنتهي. اذ خلال الدعوة إلى التعاقد يبقى كلّ من الطرفين حرّ في قطع التفاوض دون أن يترتب عن ذلك أية مسؤولية.
لكن إذا اقترن قطع التفاوض بخطأ نتج عنه ضرر للطرف الآخر فإنه يترتب على عاتق من بادر بالقطع مسؤولية تقصيريّة.
أ ثار ا إ ليجاب
تحديد هذه الآثار يقتضي معرفة ما إذا كان الإيجاب ملزما أم لا.
القوة الملزمة للإيجاب
تختلف القوة الملزمة للإيجاب بحسب ما إذا كان مقيد أو غير مقيّد بأجل.
الإيجاب غير المقيد بأجل أو الإيجاب المجرّد
الإيجاب المجرد هو الذي نجده في مجلس العقد. ويمثل هذا الأخير المكان الذي يضمّ المتعاقدين طيلة انشغالهما بمناقشة العقد.
حسب مقتضيات الفصل 30 م.إ.ع يمكن الرجوع في الإيجاب ما دام لم يقترن به قبول صريح أو ضمني.
لذلك فإن الإيجاب غير المقترن بأجل هو مجرّد من أي إلزامية طالما وقع التراجع فيه قبل القبول. كما أنه
حسب الفصل 27 م.إ.ع لا تترتب عن الرجوع أيّة مسؤوليّة طالما لم يصدر قبول.
فحسب هذا الفصل يكون الموجب في حلّ من التزامه إذا لم يصدر قبول " في الحين". باستعماله للعبارة الأخيرة يكرّس المشرّع في هذا الفصل قاعدة فوريّة القبول. إلا أن هذه العبارة تثير اشكال في تحديد المقصود منها.
فهل توجب أن يكون القبول مباشرة إثر صدور الإيجاب؟
مثل هذا التأويل لا يمكن أن يستقيم لأنه يتعارض مع ما تقتضيه الثقة والأمانة في التعامل إذ يؤدي إلى حرمان الموجب له من مهلة للتفكير تسمح له باتخاذ القرار المناسب.
لذلك فإن التأويل الأصوب في اعتقادنا هو من يعتبر أن عبارة "في الحين" تشمل كامل الفترة التي تجمع الطرفين إلى آخر المجلس.
الإيجاب المقيّد بأجل
قد يحدد الأجل بصفة صريحة وهو ما يستنتج من العبارة التشريعية "عين أجلا" الواردة في الفصل 33 م.إ.ع. وقد يستخلص بصفة ضمنيّة من ظروف التعاقد من ذلك التعاقد بالمراسلة. فهذا التعاقد يفترض حسب الفصل 34 م.إ.ع مدة زمنية لقبوله. ويكتسي "الوقت المناسب" لقبول العرض طابعا نسبيّا إذ أن مدّته تختلف حسب ظروف التعاقد وهو ما أقرته محكمة التعقيب حين اعتبرت أن "الوقت المناسب لقبول العرض إنما هو مسألة نسبية قد تطول أو تقصر حسب ظروف العقد وأحواله...". ويخضع تحديد هذه المدة إلى السلطة التقديريّة لقاضي الأصل. كما قد يستخلص الأجل الضمني من طبيعة التعاقد.
وسواء كان الأجل صريحا أو ضمنيا فإنه حسب الفصلين 33 و 34 م.إ.ع يلتزم الموجب بالإبقاء على إيجابه حتى انقضاء الأجل. وهو بالتالي إقرار بأنّ الإيجاب المقيد بأجل هو مصدر من مصادر الالتزام. ويمثل بالتحديد تصرّف آحادي الجانب. مما يفيد بأن إلزاميته تجد أساسها في الفصلين 1 و 22 م.إ.ع. وبالتالي على معنى هذين الفصلين فإن الإيجاب المقترن بأجل ينشئ التزاما بإرادة الموجب المنفردة منذ بلوغ العلم به إلى الموجب له.
وفي صورة تراجع الموجب عن الإيجاب يكون مسؤولا ومطالبا بالتعويض. إلا أن إلزاميّة الإيجاب غير مطلقة لأنه هناك إمكانيّة لسقوطه.
حالات سقوط الإيجاب
الإيجاب المجرّد
يسقط الإيجاب المجرد عملا بأحكام الفصل 27 م.إ.ع إذا انفض المجلس دون أن يصدر قبول أو إذا تراجع عنه صاحبه قبل أن يصدر عن الموجب له قبول.
الإيجاب المقترن بأجل
قد يسقط الإيجاب المقيد بأجل من الناحية الشكلية أو من الناحية الواقعية.
يسقط من الناحية الشكلية إذا فات الأجل ولم يقم الموجب له بالتعبير عن إرادته. كما أنه يسقط إذا رفضه الموجه له رفضا كليا أو في شكل قبول مشروط. هذا الأخير يعد طبقا للفصل 31 م.إ.ع رفضا للإيجاب مصحوبا بإيجاب جديد.
أما من الناحية الواقعيّة فإنه حسب الفصل 35 م.إ.ع يسقط في صورة وفاة الموجب أو تقييد أهليته شرط أن يكون الموجب له قد علم بذلك قبل أن يصدر منه القبول. وفي هذا الإطار قضت محكمة التعقيب في أن "العقد الذي يبرمه ميت صحيح إذا سبق أن صدر عنه إيجاب ومات قبل قبول الطرف الآخر دون أن يكون هذا الأخير عالما بالوفاة حسب الفصل 35 م.إ.ع" . أما إذا سبق القبول علم الموجب له فإن الإيجاب يبقى قائما. إلا إذا كان شخص الموجب محل اعتبار لدى الموجب له.
ب- القبول: L’acceptation
-1 ماهيته وشروطه
القبول تعبير بات عن إرادة من وجّه إليه الإيجاب برضائه بما عرض عليه الموجب.
ويشترط في القبول أن يكون مطابقا للإيجاب.
فلا يجب أن يختلف القبول عن الإيجاب بالزيادة أو النقصان أو التعديل وإلا اعتبر رفضا للإيجاب مصحوبا بإيجاب جديد )الفصل 31 م.إ.ع( يحتاج لكي يتم العقد إلى قبول من طرف من وجه الإيجاب الأول.
ولا يخضع التعبير عن القبول إلى شكل معين فقد يكون طبقا للفصل 32 م.إ.ع صريحا أو ضمنيّا . ويستنتج القبول الضمني من أفعال صادرة عن الموجب له تكشف عن ذهاب إرادته إلى القبول كأن يشرع في العمل بمقتضيات العقد أو في تنفيذ العقد من ذلك امتطاء وسيلة النقل من قبل المسافر.
لكن هل يعد السكوت تعبيرا عن القبول؟
يجب بداية التأكيد على أن السكوت يختلف عن التعبير الضمني. فهذا الأخير يتجسد في موقف إيجابي أي في عمل نستنتج منه الإرادة في حين أن السكوت يعد موقف سلبي فهو مجرد الصمت لا يستشف منه أي موقف.
مما يجعل البحث في السؤال المطروح مقصورا على القبول دون الإيجاب فمجرد السكوت لا يمكن أن يعبر عن الإيجاب لأنه يستلزم موقف إيجابي.
والمبدأ أن السكوت في حد ذاته أي المجرّد من كل ظرف لا يعد تعبيرا عن الإرادة ولا يمكن أن يفيد القبول.
وهو مبدأ مستمد من المقولة الفقهية الإسلاميّة " لا ينسب لساكت قول".
لكن يرد على هذا المبدأ استثناء يتوفر في صورة ما إذا اقترن السكوت بقرائن مادية أو ظروف من شأنها أن تجعله دالا على الرضاء أي صورة " السكوت الملابس أو الموصوف". ومن التطبيقات التشريعية لهذه الصورة يمكن أن نذكر ما ورد في آخر الفصل 29 م.إ.ع والذي نص على أن "عدم الجواب يعتبر رضاء إذا كان الإيجاب متعلقا بمعاملة تجارية تقدم الشروع فيها بين الطرفين". كأن يعتاد تاجر إرسال البضاعة إلى حريفه في مواعيد منتظمة دون أن يرد عليه بالقبول. كما يمكن إضافة تطبيقا آخرا للسكوت الملابس ورد في الفصل 42 م.إ.ع حيث اعتبر أن سكوت الشخص قبول إذا وقع التصرف في حقوقه بمحضره أو في غيابه وأعلم به ولم يعارض ولم يكن له في سكوته عذرا معتبرا.
-2 أ ثار القبول
يؤدّي القبول مبدئيا إلى انعقاد العقد فور صدوره.
ولا يثير هذا المبدأ صعوبات في صورة التعاقد بين حاضرين لأنه تطبيقا للفصل 27 م.إ.ع الذي يشترط الفورية في القبول لقيام العقد فإنه يسهل تحديد زمان ومكان التقاء الإرادتين. مع العلم وأن مجلس العقد حسب هذا الفصل قد يكون حقيقيا بحضور المتعاقدين جسديا أو حكميا بواسطة الاتصال الهاتفي بين المتعاقدين.
لكن الأمر يختلف في صورة التعاقد بين غائبين أو التعاقد بالمراسلة.
فما يميز هذا النوع من التعاقد هو ضرورة توفر فترة زمنية لازمة لوصول القبول إلى علم الموجب. مما يطرح إشكاليّة تحديد زمان ومكان انعقاد العقد.
فمتى يمكن الحديث عن اقتران الإرادتين؟ هل نعتد بزمن صدور القبول أم زمن علم الموجب؟ وماذا عن مكان إبرام العقد؟ هل هو مكان الموجب أم الموجب له؟
لفض هذه الإشكالية ظهرت أربعة نظريات لا بد من استعراضها قبل بيان موقف المشرع التونسي منها.
-1 نظريّة إعلان القبول: يتمّ العقد بمجرّد التعبير عن القبول دون اشتراط علم الطرف الآخر به. وبالتالي يتمّ إبرام العقد في المكان الذي يوجد به القابل.
-2 نظريّة تصدير القبول: تتفرع هذه النظريّة عن الأولى وتشترك معها في اعتبار أن العقد ينشأ في مكان وجود القابل. إلا أنها تختلف معها في زمان تمام العقد. إذ لا تكتفي بمجرد القبول بل تشترط إرساله. فلئن كانت العبرة بالإعلان عن القبول إلا أنه يجب أن يكون نهائيا لا رجعة فيه وبالتالي ضرورة إرساله للموجب.
-3 نظريّة استلام القبول: لا يقترن حسب هذه النظرية القبول بالإيجاب إلاّ إذا وصل إلى الموجب و تسلمه فيصبح القبول نهائيّا. ولا تشترط علم الموجب فعلا بالقبول لأن وصول القبول إلى الموجب قرينة على العلم به.
-4 نظرية العلم بالقبول: توافق الإرادتين لا يحصل إلاّ من وقت علم الموجب بصفة فعليّة بمحتوى القبول. وان اختلفت هذه النظرية عن سابقتها في تحديد زمان العقد فإنها تتحد معها في اعتبار أن العقد يبرم في مكان الموجب.
بالنسبة لموقف المشرّع التونسي من مختلف هذه النظريات فإنه يؤخذ من أحكام الفصل 28 م.إ.ع اعتماده نظريّة إعلان القبول.
إلا أن اعتبار العقد تاما من وقت اعلان القبول وفي مكان القابل يبقي معلقا على شرط
وصول القبول إلى الموجب قبل انقضاء الأجل الصريح أو الضمني على معنى الفصلين 33 و 34 م.إ.ع. أما إذا لم يتحقق الشرط ووصل القبول بعد انقضاء الأجل فإن الموجب يتحلل من التزامه. ويبقي للقابل الحق في المطالبة بالتعويض.
إلا أن المشرع التونسي قد تبني نظرية مختلفة عن إعلان القبول إذا ما تم التعاقد بواسطة المراسلة الالكترونية. فمراعاة لخصوصية العقد الإلكتروني نص الفصل 28 من قانون عدد 83 لسنة 2000 المؤرّخ في 9 أوت 2000 المتعلق بالمبادلات والتجارة الإلكترونيّة على أنه " ينشأ بعنوان البائع وفي تاريخ موافقة هذا الأخير على الطلبية بواسطة وثيقة إلكترونية ممضاة وموجهة إلى المستهلك ما لم يتفق الطرفان على خلال ذلك". مما يفيد بأنه قد أخذ بنظريّة العلم بالقبول. هذه القاعدة الخاصة غير آمرة حيث منح المشرع للأطراف إمكانية الاتفاق على ما يخالفها.
إرسال تعليق