بقلم مروى معلاوي،باحثة ماجستر في القانون الخاص
طالما تساءلت الفلسفة عن الجدوى من القانون فتعارضت المواقف حوله.
من يضع القانون ؟ ما الذي يجعل المجموعة راضخة لقوانين تسلبها حيزا من حريتها؟
هل يمكن الاعتماد على القوانين في معالجة القضايا المجتمعية أم أنها مجرد تعبيرات عن إرادة مجتمع بعينه بغض النظر عن ملائمتها للحقوق الإنسانية الكونية ؟ هل أن الثورة القانونية هي التي تأتي بمجتمع متخلّص من القيود والعادات الرّجعية أم أن القوانين الثوريّة لا يمكن أن توجد دون ثورة فكرية و اجتماعية سابقة؟
لعلّ من أكثر القضايا التي تطلّبت تدخّل التشّريع في معالجتها نجد الجرائم الجنسية التي طالما تعاملت معها المجتمعات الإنسانية بسلبيّة لدرجة جعلت من هاته الانتهاكات ممارسات عادية في بعض الأوساط.
وان كان من الصّعب تصنيف الجرائم الجنسية حسب خطورتها على اعتبار أن كل الممارسات التي ينعدم فيها عنصر الرضا هي اعتداءات في غاية الخطورة على الذات الإنسانية غير أن جريمة الاغتصاب تبقى من أبشع ما عرفته البشرية من انتهاك للجسد الإنساني و الاعتداء على كرامته.
فان اتّفقت اللّغة على تعريف اغتصاب الشيء بأخذه ظلما وكرها واغتصاب الجسد بالاتصال به جنسيا بالإكراه يبقى التعريف القانوني والفقهي محل جدال [1].
بدءا بالتشريع التونسي الذي لم تحض جريمة الاغتصاب فيه بتعريف قانوني واضح بل اكتفى الفصل 227 الوارد بالجزء الثاني من المجلة الجزائية والمخصص للاعتداء على الأشخاص و الواردة تحت عنوان “في الاعتداء بما ينافي الحياء” ، بالتنصيص على العقوبات المقررة ضدّ مرتكبها.
إلا أنه واستنادا للفصل المذكور يمكن تعريف جريمة الاغتصاب حسب الأستاذ الأحمدي بأنه “مواقعة لامرأة بدون رضاها مع العلم بذلك “[2]
من ناحية أخرى يمكن القول أن أهمية جريمة الاغتصاب تتجاوز القانون التونسي فالقانون الدّولي اهتم بها أيضا بل واعتبرها من جرائم الحرب. ويتراءى لنا ذلك من خلال الفصل 27 من اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب والذي نصّ على ضرورة حماية النساء ضد الاعتداءات الجنسية كالاغتصاب والدعارة والاعتداء بالفاحشة. [3]
وكذلك الفصل الخامس من نظام المحكمة الدولية لمحاكمة المسؤولين على الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني في يوغوسلافيا سابقا والذي اعتبر الاغتصاب من بين الجرائم ضدّ الإنسانية.[4]
فضلا عن الإعلان الصّادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر 1993 المتعلق بالقضاء على العنف ضد النساء للعنف الجنسي بما في ذلك العنف الزوجي باعتباره نيلا من الحرمة الجسدية والكرامة البشرية.
ولعلّ ما يشهده المجتمع التونسي اليوم من ارتفاع لنسبة الجرائم الجنسية بصفة عامّة وجرائم الاغتصاب بصفة خاصّة وكيفية تعامل المجتمع من ناحية و وسائل الإعلام من ناحية أخرى مع “الضحيّة” وتحميلها جزءا من المسؤولية هو ما قد يجعلنا في أشدّ الحاجة إلى قوانين تمكّننا لا فقط من التّصدي للاغتصاب بل أيضا للحدّ من تسطيح مسألة الجرائم الجنسيّة.
وفي هذا الإطار يجدر التّساؤل :
إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن تمكّن القانون التونسي بصورته الحالية المتجسدة في الفصل 227 من المجلّة الجزائية من مقاومة جريمة الاغتصاب ؟
ينصّ الفصل 227 على عقوبة الإعدام لكل من واقع أنثى غصبا باستعمال العنف أو السّلاح أو التّهديد به وكل من واقع أنثى سنّها دون العشرة أعوام كاملة ولو بدون استعمال الوسائل المذكورة و على عقوبة السجن بقية العمر لكل من واقع أنثى بدون رضاها في غير الصور المتقدمة ويعتبر الرضا مفقودا إذا كان سنّ المجني عليها دون الثّلاثة عشر سنة.
وبالنّظر إلى مقتضيات هذا الفصل الذي لم يعرّف جريمة الاغتصاب مكتفيا بإدراج عقوبات لمرتكبها قد يصحّ وصفها بصارمة ، يمكن إدراج ملاحظتين :
أولا، عدم استعمال المشرّع لعبارة “اغتصاب” بل مواقعه أنثى.
ثانيا، فقدان الفصل المذكور للدّقة و التّفصيل و إطلاقه الذي قد يطرح مشاكل عدّة في التأويل.
ومن هذا المنطلق وجب التّركيز في علاقة بهذا الموضوع في مرحلة أولى على مسألة شرط توفر عنصر “المواقعة” في جريمة الاغتصاب .
لنسلّط الضوء في مرحلة ثانية على جريمة ” الاغتصاب الزّوجي” في القانون التونسي.
1) شرط توفّر عنصر المواقعة :
اعتبرت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب أن المواقعة هي الركن المادي لجريمة الاغتصاب . وذلك في قرارها الصادر في 16 جوان1969تحت عدد6417 [5] والذي ذكر بان تلك الجناية لا تقوم إلا إذا كان هناك وطء بالمكان الطبيعي من الأنثى وعن طريق الإيلاج .
وانطلاقا من هذا المفهوم الضّيق للاغتصاب يمكن القول بأن الاعتداء بفعل الفاحشة بالقوة على امرأة مثل إتيانها من الخلف لا يمكن اعتباره اغتصابا قانونا بل اعتداءا بالفاحشة على معنى الفصل 228من المجلة الجزائية .
ولعلّ اعتماد المشرّع لهذا التصنيف يعود أساسا لاختلاف الآثار الناجمة عن الاغتصاب كالافتضاض و الحمل، وهو ما أشارت إليه الدّوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب في قرارها المذكور . إلّا أن هذا الاختلاف لا يمكن أن يمحو أو يخفي خطورة الاعتداء بالفاحشة وأثاره.
كما أن القيام بعملية دلك سطحي مع استعمال العنف أو السلاح قد يؤدي إلى الحمل دون اعتباره اغتصابا بل اعتداء بالفاحشة. في المقابل يمكن اعتباره من الأعمال التحضيرية لمحاولة الاغتصاب إذا توفرت أركان المحاولة على معنى الفصل 59 جنائي .
يمكن القول أيضا واعتمادا على هذا التعريف للاغتصاب أن إدخال أي شيء بالعضو التناسلي للمرأة غير العضو الذكري لا يمكن اعتباره اغتصابا ولو نتج عن ذلك افتضاض للبكارة .نفس الشيء بالنسبة لحقن أنثى بالقوة لكمية من المني من اجل تكوين الحمل الذي لا يمكن اعتباره اغتصابا وذلك لفقدان الحالتين المذكورتين لعنصر هام من مكونات جريمة الاغتصاب حسب القانون التونسي ألا وهي المضاجعة الطبيعة .[6]
نتحدث إذا عن أفعال خطيرة لا تقلّ وحشية ولا انتهاكا للذات البشرية عن الاغتصاب في المقابل يجعل لها القانون التونسي عقوبات أخفّ وأقل صرامة.
وهو مايجعلنا نتساءل عن معيار التفريق بين الجريمتين الذي اعتمده المشرع التونسي رغم عدم اختلافهما من جهة الانتهاك الذي يلحقانه بكرامة الذات البشرية .
في فرنسا مثلا نجد الأمر مختلف وذلك بموجب تنقيحات جوهرية للفصل 332 من المجلة الجنائية الفرنسية بموجب القانون الصادر في 23 ديسمبر 1980 والذي عوّض هذا النص بالفصل 23-222 من المجلة الجنائية الجديدة الصادر بمقتضى قانون 22 جويلية 1992 وأسند للاغتصاب تعريفا واسعا يتحقق ب “كل فعل إيلاج جنسي مهما كانت طبيعته ارتكب على ذات الغير بالعنف أو الإكراه أو المباغتة ”
« tout acte de pénétration sexuelle de quelque nature qu’il soit , commis sur la personne d’autrui par violence , contrainte , menace ou [7]surprise est un viol ».
وبمقتضى هذا التعريف أصبح الحديث عن مرتكب الجريمة (رجلا) أو مرتكبة للجريمة (امرأة) وبذلك لم يعد يشترط أن يكون الجاني ذكرا والضحية أنثى.
أما على صعيد الركن المادي فانه لم يعد يشترط الاتصال الجنسي الطبيعي بين المرأة و الرّجل بل مجرد الإيلاج الجنسي في أي مكان ( فرج المرأة أو دبر الرجل أو دبر المرأة أو حتى الفم
.)La fellation
كما انه ليس من الضروري أن يقع إدخال العضو الذكري للرجل للحديث عن الاغتصاب بل مجرد إدخال جزر في الفرج مثلا أو الدبر بدون الرّضا هو اغتصاب.[8]
إذن فالاغتصاب حسب القانون الفرنسي هو كل إيلاج جنسي ارتكب على ذات الغير دون رضاه وهو ما يعني أن الفعل يمكن أن يُرتكب من قبل ذكر أو أنثى وان يسلّط على ذكر أو أنثى. وهو مالا نجده بالفصل 227 من المجلة الجزائية التونسية الذي استعمل بصريح العبارة “كل من واقع أنثى “[9].
وان كانت هاته العبارة تسمح بالقول بكون ارتكاب الجريمة يمكن أن يكون من قبل ذكر أو انثى على اعتبار أن “كل من واقع ” عبارة تشمل الجنسين لغة . إلا أنه لا يمكن الحديث عن مواقعة بين امرأتين وذلك لموانع فيزيوليجية ، إذ أنّ المواقعة حسب القانون التونسي تحيل بالتحديد لعملية إيلاج عضو ذكري بالعضو التناسلي الأنثوي[10]. وهو ما يحول دون اعتبار الاعتداء الجنسي الصادر من أنثى ضد أنثى اغتصابا بل اعتداءا بالفاحشة على معنى الفصل 228 للمجلة الجزائية والذي ورد مطلقا وشاملا لكل الاعتداءات ضد الجنسين .
نفس الشيء بالنسبة للمرأة التي تجبر الرجل سواء كان بالعنف أو التهديد أو الابتزاز على الاتصال الجنسي فهي لا تعاقب من اجل جريمة الاغتصاب بل من أجل الاعتداء الفاحشة.
وهو ما يمكن اعتباره خللا كبيرا في الفصل 227 إذ نلاحظ أن المشرّع التونسي يربط الاغتصاب ارتباطا وثيقا بفعل المواقعة لا بممارسة الجنس دون رضا الضحية عموما. الشيء الذي يدفعنا للتّساؤل هل أن تجريم الاغتصاب هو تجريم لانتهاك الحرمة الجسدية والكرامة البشرية للمرأة بصفة عامة وذلك في إطار حقوقها الإنسانية أم أنه حماية لما يعتبره المجتمع “شرف” والذي ينتهك بفعل المواقعة المرتكبة من قبل ذكر بالضرورة، وكلّ ما خرج عن هذا الإطار يعتبر أقل خطورة طالما لم تحدث مواقعة من قبل ذكر.
وبالتالي لا يمكن تكييف الاعتداءات الخارجة عن دائرة المواقعة إلا كجريمة”اعتداء بالفاحشة” يعاقب عليه بالسجن لستة أعوام ( عقوبة قد ترتفع بالسجن لاثني عشر سنة في صورة الاعتداء على قاصر و بالسّجن المؤبد في صورة استعمال السلاح ) وهي عقوبة لا تتناسب مع الجرم المقترف خاصة بمقارنتها بالعقوبات المقررة بالفصل 227 التي قد تبلغ حدّ الإعدام .
هذا التّمشي الأخلاقوي وحده قد يفسّر الاختلاف بين الوضعية القانونية للجاني الذّكر و وضعية الجانية الأنثى التي لا وجود لها قانونا على الأقل في علاقة بجريمة الاغتصاب .ومن ذلك عدم الاعتراف قانونا بالاعتداء الجنسي من قبل أنثى ضد انثى كضرب من ضروب الاغتصاب والاكتفاء بتصنيفه كاعتداء بالفاحشة بغض النظر على مدى خطورته و وحشيته. وذلك على ما يبدو، بسبب اعتبار المشرّع التونسي لهذا الفعل أقل انتهاكا “لشرف المرأة “الضحية بالنظر لكونه صادرا من امرأة مثلها.
في المقابل قد تسقط ورقة التّوت عن التضارب الذي يعرفه القانون التونسي اثر تفحص مقتضيات الفصل 230 من نفس المجلة و الذي ينصّ على عقوبات قد تبلغ ثلاث سنوات سجن ضد كل أنثى تمارس الجنس بإرادتها ودون غصب أو إكراه مع أنثى مثلها وذلك تحت مسمّى جريمة المساحقة.
نفس هذا التّمشي الذي يعكس عقلية ذكورية قد يفسّر عدم اعتراف المشرّع بجريمة اغتصاب يكون الذكر فيها ضحية لا جانيا سواء كان ذلك من قبل أنثى أو ذكر واعتبار كلّ اعتداء على الحرمة الجسدية للذّكر مهما بلغت حدّته اعتداء بالفاحشة وذلك نظرا لعدم اعتراف المجلة الجزائية بجريمة الاغتصاب إلا في حال كانت الضحية أنثى.
فالذكر في كل الحالات لا يمكن أن يكون مغتصَبا طالما لا يمكن تقنيّا “مواقعته ” وانتهاك” شرفه” الذي على مايبدو أن حصره في “الفرج الأنثوي” لم تفرضه العادات والتقاليد المجتمعية والمنظومة الأخلاقية فحسب بل أيضا المنظومة القانونية .
الشّيء الذي يجعلنا نتساءل مرة أخرى هل أن الاغتصاب حسب المشرّع التونسي هي جريمة متعلقة بالكرامة البشرية ام أنها لا تخلو من علاقة سببية تربطها بال”شرف” حسب تعريفه المجتمعي ؟
هل يمكن القول بأن ما يجعل فعل الاغتصاب جريمة هو توفر عنصر “هتك شرف المرأة” الذي يتحقق ب”المواقعة”ومع زواله تنتفي الجريمة ؟
تساؤلات قد تتواصل مع دراسة جريمة الاغتصاب الزوجي في القانون التونسي
2) الاغتصاب الزوجي :
ينصّ الفصل 23 من مجلّة الأحوال الشخصية الجديد المنقّح بالقانون عدد74 لسنة 1993 المؤرخ في 12 جويلية 1993 على ضرورة قيام على كل من الزوج والزوجة بالواجبات الزّوجية حسبما يقتضيه العرف والعادة بما في ذلك الواجبات الجنسية.
وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل شرعي : هل يمكن اعتبار مقتضيات الفصل 23 من مجلّة الأحوال الشخصية كما وقع ذكرها أعلاه ضربا من ضروب التّبرير القانوني لإجبار الزّوج زوجته على المضاجعة دون رضاها أو باستعمال القوة ؟ هل يمكن الحديث عن حقّ الزوج في الاتصال جنسيا بزوجته دون رضاها ؟ ألا يحقّق فعل المواقعة باجتماعه مع عنصر عدم الرضا مكونات جريمة الاغتصاب المذكورة بالفصل 227 من المجلّة الجزائية ؟
في الواقع يمكن القول أن جريمة الاغتصاب عموما في القانون التونسي والاغتصاب الزّوجي بصفة خاصّة تطرح عدة تساؤلات اختلف حولها الفقه خاصة في حضرة نص عامّ ومطلق بالمجلّة الجزائية من جهة وغياب نص خاصّ بالاغتصاب الزوجي من جهة أخرى.
ولعلّ من أهم التساؤلات نجد مدى تأثير العلاقة التي تربط الضحية بمرتكب جريمة الاغتصاب على التكييف القانوني للجريمة المرتكبة.
ينص الفصل227 على عقوبات متعلقة بكل من واقع أنثى باستعمال العنف أو السلاح أو التهديد به. وهو ما يمكننا من القول بأن العبارات الواردة به عامّة ومجرّدة.
فالاغتصاب حسب هذا الفصل هو كل مواقعة لأنثى دون رضاها وذلك بدون استثناء صريح للزّوجة أو أخذ بعين الاعتبار للعلاقة التي تربط الجاني بالضحّية.
وطبقا للفصل 533 من مجلة الالتزامات والعقود فان النّص المطلق يؤخذ على إطلاقه.
وبالتالي يمكن القول أن المشرّع مبدئيا لم يستثن أي نوع من أنواع الاغتصاب و هو ما يجعل بالضرورة كل مواقعة أنثى دون رضاها هي جريمة اغتصاب حتى وان كان الجاني زوج الضحية .[11]
فالرّابطة الزوجية لا تجرّد المرأة من حقّها في الحفاظ على حرمتها الجسدية و كرامتها البشرية كما لا تجرّدها من حقّها في رفض الاتصال الجنسي بزوجها متى أرادت ذلك.
في المقابل يحقّ للزّوج قانونا أن يطالب بالطلاق للضرر في حال امتناع زوجته عن الاتصال به جنسيا بصفة متكررة ومستمرّة دون أن يمنحه ذلك الحقّ في اغتصابها.[12]
وهو ما أكدته محكمة التعقيب الفرنسية في قرار نقضت فيه قرار دائرة الاتهام المؤيّد لقرار قاضي التحقيق الذي اعتبر أن فرض الزوج على الزوجة الاتصال الجنسي يدخل في إطار الزواج في مفهومه المتعارف عليه حسب العادة والعرف. غير أن محكمة التّعقيب نقضت هذا القرار واعتبرت أنه من حقّ الزوجة أن تثبت عدم رضاها عندما قام زوجها بالاتصال بها جنسيا حتى ولو تعلق الأمر باتصال جنسي عادي غير مصحوب بالعنف. لكن تبقى مسألة إثبات عدم توفر عنصر الرضا هي الفيصل في هذا الشّأن.فان كان من حق الزوج الاتصال بزوجته قانونا فانه وحسب ماتأكدّه محكمة التّعقيب الفرنسية في نفس القرار المذكور “لا يستطيع جبرها بالقوة على أداء هذا الواجب وإلا اُعتبر مغتصِبًا “[13]
نفس الفكرة نجدها بصفة صريحة في المجلة الجنائية الكندية في الفصل 278الذي يجرّم الاغتصاب الزوجي و يعاقب الزوج المعتدي جنسيا على زوجته سواء كان يساكنها أو لا في تاريخ الواقعة وهو ما حرم الزوج من الحصانة التي كان يتمتع بها سابقا وذلك لحماية حرمة الذّات الإنسانية والقضاء على التمييز الجنسي. [14]
أما بالنسبة للقانون التونسي فنجد الأمر مختلفا إذ ونتيجة لغياب نص صريح وخاص يجرّم الاغتصاب الزوجي ورغم الصيغة المطلقة للفصل 227 من المجلّة الجزائية و حذف واجب الطاعة الزوجية من مجلة الأحوال الشخصية فان الإقرار باعتراف المشرّع التونسي بجريمة الاغتصاب الزوجي لا يزال محلّ جدال .
هذا فضلا عن وجود شقّ من الفقه لا يعتبر أصلا اتصال الزوج بزوجته جنسيا دون رضاها اغتصابا بل ذهب البعض إلى اعتباره حقّا وواجبا من ضمن الواجبات الزوجية التي أقرها الفصل 23 من مجلّة الأحوال الشخصية ولو كان ذلك مع انعدام الرضا من قبل الزوجة .
في المقابل ذهب شقّ أخر من الفقه إلى التّفكير في إمكانية معاقبة الزوج في صورة استعماله للعنف لإجبار زوجته على الاتصال الجنسيّ. بيد أن هذا العقاب متعلق أساسا بجريمة الاعتداء بالعنف فحسب دون تكييف الجرم المرتكب على كونه جريمة اغتصاب مرتبطة أساسا بانعدام عنصر الرضا، والتي يمكن تُرتكب دون ترك آثار للعنف.
يمكن القول أن هاته القراءة لا تشكّل انتهاكا لحقوق المرأة فحسب و التعامل مع جسدها كملك للزّوج بل أيضا لأهم حقّ من حقوق الإنسان ألا وهو الحق في حماية الحرمة الجسدية والكرامة البشرية الذي أكده الفصل 23 من دستور 2014 للدولة التونسية.
وفي نفس الإطار تجدر الإشارة أن الاغتصاب الزوجي يمكن أن يكون ضحيته الزّوج أيضا، كأن تجبر مثلا الزوجة زوجها على الاتصال بها جنسيا تحت أي نوع من التهديد أو الابتزاز.فهل يمكن اعتبار هاته الممارسات مشروعة على اعتبار أن الزوج مجبر على القيام بواجباته الزوجية بما في ذلك واجباته الجنسية؟
في الواقع يمكن القول أن في القانون التونسي وفي كل الحالات لا يمكن الحديث عن جريمة اغتصاب ضحيتها ذكر وذلك لاشتراط أن تكون الضحية أنثى حسب مقتضيات الفصل 227 الذي يتحدث عن “مواقعة أنثى ” كما وقع ذكره سابقا. ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الذكر عموما مستثنيا من ضحايا هاته الجريمة وبالتالي فمن باب أولى و أحرى أن لا يُعترف قانونا بجريمة اغتصاب ضحيتها الزّوج .
في المقابل يمكن الحديث عن اعتداء بالفاحشة على ذكر بصفة عامّة لكنّ الأمر سيختلف إذا كان المجني عليه زوج الجانية فقد تؤاخذ لاعتدائها بالعنف مثلا على زوجها أو لابتزازها لا من أجل الاعتداء بالفاحشة أو الاغتصاب على اعتبار العلاقة الزوجية التي تربطها به. الشّيء الذي لا يقلّ خطورة على عدم الاعتراف بجريمة الاغتصاب الزوجي التي تكون ضحيته المرأة، لما في ذلك من اعتداء على الحرمة الجسدية والكرامة البشرية للزّوج والتي لا تختلف درجة خطورتها باختلاف جنس الضحية .
ورجوعا للمرأة ضحية الاغتصاب الزّوجي فأنه لا شكّ أن التعامل السّلبي مع الجريمة المسلّطة عليها يتعارض مع جلّ المعاهدات الدولية الحامية لحقوق المرأة. ولعلّ أهمها المادة الثّانية من الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر 1993 المتعلق بالقضاء على العنف ضد النساء والتي تنص صراحة على اعتبار اغتصاب الزوجة ضربا من ضروب العنف الجنسي المسلّط على المرأة. [15]
أما بالنسبة لفقه القضاء فيمكن القول أن تعامله مع هاته القضايا يشوبه الكثير من الحذر فلا نجد تقريبا غير القرارات التي تعاقب الزوج على ارتكابه لجريمة الاعتداء بالعنف على زوجته أثناء المواقعة أو من أجل ممارسته لأفعال جنسية لا يؤطرها القانون ولا يضمن حقه فيها.في المقابل لا وجود تقريبا لإقرار فقه قضائي بجريمة الاغتصاب الزوجي إلا في حالات نادرة .وهو ما يجعلنا نتساءل عن الجدوى من اعتراف القانون بحق الزوج في الطلاق للضرر في صورة عدم قيام زوجته بما وصفه المشرع ب”واجباتها الزوجية” بما في ذلك الجنسية منها طالما “يحقّ” له الاتّصال بها جنسيا دون رضاها .
وما قد يضفي شرعية أكثر على تساؤلنا هذا هو ما نجده بالفصل 13 من مجلّة الأحوال الشخصية والذي ينص على أنه ” ليس للزوج أن يجبر المرأة على البناء إذا لم يدفع المهر ويعتبر المهر بعد البناء دينا في الذمة لا يتسنّى للمرأة إلا المطالبة به فقط ولا يترتب عن تعذر الوفاء به الطلاق” . وبالتالي فان القراءة العكسية للفصل 13 المذكور قد تفتح الباب للحديث عن “حقّ ” الرّجل في إجبار زوجته على البناء عند دفعه للمهر.
وهنا نتساءل أكثر عن قصد المشرّع بمصطلح إجبار و إذا ما كان يقصد به حقّه القانوني في الطلاق للضرر أم أنها إشارة صريحة لحقّه في إجبار زوجته فعليا على البناء وبالتالي تشريع للاغتصاب الزوجي لا فقط السكوت عنه على الأقل في علاقة بالبناء؟
ثمّ ألا يجعل ربط المشرّع المهر بحق الزوج في البناء من الزّواج أشبه ب”عقد نكاح ” مبدأه المال المقدّم في شكل مهر مقابل الجنس المتمثل في البناء ؟ خاصّة وأن تسمية المهر شرط من شروط صحة الزواج حسب الفصل الثالث من مجلة الأحوال الشخصية.
يمكن القول واستنادا لما ذكر سابقا أنّ القانون التونسي ومن خلال المجلة الجزائية قد اهتم بجريمة الاغتصاب واعتبرها من الجرائم الخطيرة المستوجبة لعقوبة الإعدام التي تمثّل استثناءا لحق كوني متمثل في الحق في الحياة ولعقوبات سجنيّة طويلة المدى (قد تبلغ مدى الحياة) . غير أنّ هذا التّأطير القانوني يبقى عامّا و لا يخلو من الثّغرات التي تسببت وقد تتسبب في العديد من الصعوبات المتعلّقة بالـتّأويل و التّطبيق فضلا عن عدم إلمامه بجميع الجرائم الجنسية التي لا تخرج عن دائرة الاغتصاب والتي لم يهتمّ بها المشرع التونسي .
بالإضافة إلى ذلك لا يخفى عن أحد مدى تأثّر التأطير القانوني التونسي المتعلق بالجرائم الجنسية عموما وبالاغتصاب بصفة خاصّة بالتّعامل السّطحي للمجتمع مع هاته الجرائم من خلال معايير “أخلاقية ” محافظة وغير منصفة للضّحية و التّي هي في حاجة لقوانين تمنع هيمنتها لا قوانين ترسّخها وتزيد من شرعيّتها.
ملاحظة : تمت صياغة هذا المقال في شهر افريل لسنة 2017 اي قبل التصويت على القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المؤرخ في 11 أوت 2017المتعلق بالقضاء على العنف ضد النساء والذي سيدخل حيز .التنفيذ بعد6 اشهر من تاريخ نشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية
وتبعا لذلك فان الفصل 227 من المجلة الجزائية والذي تعرّض اليه المقال في جزئه الاول قد تمّ تنقيحه واستبداله بنسخة تداركت معظم النقاط المنتقدة بهذا العمل.
[1] لسان العرب لابن منظور، الجزء العاشر، صفحة 47
[2] الدكتور عبد الله الأحمدي، قانون جنائي خاص الجرائم الأخلاقية،صفحة 21
[3] Oscar UHLER et Henri COURSIER , Commentaire IV, la convention de Genève relative à la protection des personnes civiles en temps de guerre , Comité international de la croix rouge ,1956.
[4] Karine LESCURE , Le tribunal pénal international pour l’ex Yougoslavie , Paris , Montchrestien,1994,page 100-101.
[5] نشرية محكمة التعقيب 1969.القسم الجزائي.ص175
[7] 2عبد الله الأحمدي،المرجع السّابق صفححة 24
[8] المرجع السّابق صفحة25
[9] المرجع السّابق صفحة26
[10] نشرية محكمة التعقيب 1969.القسم الجزائي.ص175
[11] المرجع السّابق صفحة 32
[12] المرجع السابق صفحة33
[13] المرجع السّابق صفحة 34
[14] William SCHABAS, Les infractions d’ordre sexuel, éditions Yvon BLAIS inc . Canada (Québec 1995.p.163)
[15] المادة2 (أ) من الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر ديسمبر 1993 المتعلق بالقضاء على العنف ضد النساء :
يفهم بالعنف ضد المرأة انه يشمل على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، ما يلي
أ- العنف البدني والجنس والنفسي الذي يحدث في إطار الأسرة بما في ذلك الضرب والتعدي الجنسي على أطفال الأسرة الإناث ، والعنف المتصل بالمهر ، واغتصاب الزوجة ، وختان الإناث وغيره من الممارسات التقليدية المؤذية للمرأة ، والعنف غير الزوجي والعنف المرتبط بالاستغلال .
إرسال تعليق