يعد العقد من اهم مؤسسات الحياة الاجتماعية التي يتوجب على دارس القانون الاهتمام بها.
ورغم ان مجلة
الالتزامات والعقود التونسية لم تعرفه على غرار بعض القوانين المقارنة،
فالعقد كأهم مصدر من مصادر الالتزام، عبارة عن اتفاق بين ارادتين فأكثر اما لإنشاء رابطة قانونية او لتغييرها او لانقضاء أخرى سابقة الوضع. بمعنى اخر هو كل تصرف قانوني تتجه فيه الإرادة الى احداث أثر قانوني.
ولا يمكن ان يكون للعقد وجود فعلي الا بتوفر جميع اركانه المنصوص عليها بالفصل 2 من مجلة الالتزامات والعقود ومنها الرضاء بما هو معطى نفساني تتشكل به الدراية وتعبر فيه عن الإرادة.
فالإرادة ركن جوهري في جميع التصرفات القانونية ولا يمكن بحال لأي تصرف ان ينشا ويرتب اثارا دون توفر هذا الركن. وبالرجوع لمنطوق الفصل الأول من مجلة الالتزامات والعقود نتبين ان للشخص الحرية المطلقة في انشاء ما يريد من تصرفات في إطار قانوني كلما اتجهت ارادته لذلك، لكن يمكن ان توجد بعض المعطيات الخارجية التي تحول دون ذلك وبالتالي تشكل قيدا لهاته الإرادة.فبوجود الرضاء يولد العقد صحيحا، وبانعدامه
يولد العقد ميتا، اما ان كان الرضا معيبا فيولد العقد مريضا.
وفي هذا الإطار يتنزل المرض الذي رغم توارده
في عدة مواقع من القانون الوضعي التونسي فالمشرع لم يقم بتعريفه تعريفا تشريعيا وترك المسالة موكوله لاجتهاد القاضي.
اما لغويا، فللمرض معان كثيرة منها السقم أي
نقيض الصحة والمرض أيضا هو كل ما خرج بالكائن الحي عن حد الصحة والاعتدال من علة
او نفاق او تقصير في امر. والمريض هو الشخص الذي تغيرت حالته واضطرب بعد
اعتداله، ففسدت صحته فضعف وأصبح ناقص القوة.
و يكتسي المرض أهمية بالغة و ذلك باعتباره مفهوم
متغير حسب ميدانه و الغاية منه علاوة
على ارتباطه بمختلف العلوم و الميادين
وتجدر الإشارة بان المرض عموما وبتعدد تعاريفه وانواعه، يمس من العلاقة العقدية بطوريها: التكوين والتنفيذ.
اما إذا طرا المرض زمن تنفيذ العقد،
فهو يحدث اضطرابا في العلاقة التعاقدية، اذ يسبب للمتعاقد اعتلال جسماني سواء كان
بدنيا او نفسيا يحول دون وفائه بالتزاماته او يؤخره.
بوجوده في هذه الوضعية، يكون المريض في حاجة
للتحلل من التزاماته العقدية من جهة واعفائه من تعويض الخسارة من جهة اخرى.
ويبدو انه يمكن في هذه الحالة تطبيق نظرية القوة
القاهرة على المرض فيتسنى للمريض المتعاقد الذي وجد نفسه في وضعية استحالة تنفيذ
الالتزامات، ان يعفى من تعويض الخسارة لمعاقده.
وتجدر الإشارة ان الفقه يربط وجود القوة
القاهرة بتوفر ثلاث شروط متظافرة وهي استحالة الدفع واستحالة التوقع واجنبية
السبب. بعبارة أخرى لا يمكن اعتبار المرض
قوة قاهرة الا باستجابته لهاته الشروط.
اما بخصوص الشرط الأول، استحالة التوقع،
يجب اعتماده كمبدأ عام وذلك باعتبار ان الانسان لا يمكنه ان يتوقع زمن اصابته
بالمرض5 ومع ذلك يجب اقصاء الحالة التي لا يطرأ فيها المرض عند تنفيذ
العقد و انما يكون متوفرا منذ مرحلة تكوين العقد.
وان استحال التوقع، لا يمكن بحال التعسف
تطبيق نظرية القوة القاهرة، الا إذا استحال الدفع فالمرض لا يكون دائما
مستحيل الدفع، اذ يجب اقصاء الحالة التي يكون فيها العقد غير قائم على الاعتبار
الشخصي فيتمكن المريض بالتالي بتنفيذ التزاماته بمساعدة الغير ويكون بذلك قد اجتنب
القوة القاهرة.
وفيما يخص اجنبية السبب، يجب ان يكون المرض خارجا عن إرادة المريض وفي هذا الصدد يعتبر" العميد كاربونيه ان" المرض يظهر في نفس الوقت كقوة طبيعية او ابتلاء الاهي او كضعف داخلي للإنسان"
ومهما يكن من الأحوال، يخضع تطبيق نظرية
القوة القاهرة من عدمه الى السلطة التقديرية للقاضي، وهو ما اكدته المحكمة التعقيب
الفرنسية في عديد المناسبات.
اما بخصوص مرحلة التكوين، فيمكن ان يكون المرض
عقليا فيعطل ملكة التمييز وبالتالي يمس من أهلية المريض المتعاقد، او ان يكون
بدنيا مقترنا بآلام ترتب فقدان العافية فترتبك إرادة المريض ويعتريها اضطراب يؤول
الى اتخاذ قرار غير مناسب.
سواء
طرأ المرض اثناء تكوين العقد او اثناء تنفيذه، كان من الضروري تدخل المشرع لتوفير
الحماية القانونية اللازمة للمريض الذي وجد، نظرا لهذه الظروف المحيطة به، في
وضعية هشة تجعل منه طرفا ضعيفا في العقد وتمتد هذه الحماية لكل من لحقه ضرر جراء
هذه العقود.
بناء على ما سبق، يصبح من المشروع ان نتساءل
حول مظاهر الحماية القانونية في العقود التي يبرمها المريض؟
للإجابة عما تقدم يتجه تناول أسس الحماية
القانونية لهاته العقود (جزء أول) والبحث في آلياتها (جزء ثان)
الجزء الاول : اسس الحماية القانونية في العقود التي يبرمها المريض
يمثل كل من الاهلية و الرضى الاركان و الاسس التي يقوم عليها العقد و ينبني صحيحا و من هنا كان تأثير مرض المعاقد على احدهما او كلاهما يستوجب تدخل المشرع و فرضه للحماية القانونية اللازمة ،و بدا المشرع مترددا في تأسيس هذه الحماية , بين مبنى ذاتي هدفه الوحيد تحقيق حماية كاملة للإرادة الفردية و مبنى موضوعي يرتقي بالالتزام التعاقدي.
أولا: تأثير المرض على الرضا
الرضا بما هو تعبير الطرفين عن ارادتهما
للتعاقد، يشكل الركيزة الاساسية لكل تصرف قانوني و لهذا يجب ان يكون منبثقا عن
ارادة واعية و متبصرة.
و يمكن تعريف الارادة بكونها عملية فكرية تمكن الانسان
من تحليل معطيات التصرف الذي يقصده ثم من تقييمه و اخذ القرار في شانه.
و بما ان
المرض يمكن ان يطرا زمن تكوين العقد فيمس من رضى المتعاقد ويوثر عليه، تعرض المشرع
للمرض في باب عيوب الرضى ضمن الفصل 59 م اع الذي جاء
به ان "أسباب فسخ العقد المبنية على حالة مرض او ما شاكله من الحالات موكوله
لنظر الحاكم. "
و الاحكام الاصلية لهذا النص تجد سندها في الفصل 51 من المشروع التمهيدي لسنة 1897 الذي لا يتحدث عن " حالة مرض او ماشاكله" بصفة مطلقة و انما - وبصفة ادق- عن "المرض و العاهات الطبيعية "
كما تعرض المشرع لمرض المعاقد في باب العقود الخاصة
ضمن الفصل 556 م اع، حيث تطرق لمرض الموت .
بقراءة للنصوص
المذكورة يتبادر الى الذهن تساؤل يتعلق بالسبب الذي جعل المشرع يميز بين المرض على
معنى الفصل 59 م اع ومرض الموت على معنى الفصل 565 م اع، فلسائل ان يسال ؛
ما الداعي لتنظيم المرض في موضعين مختلفين ضمن نصين مختلفين ؟
و لكن يرى
جانب من الفقه انه يمكن تجاوز هذه التساؤلات باعتبار ان مرض الموت يلحق بالنظرية
العامة للرضى.
وقد بات من الضروري في هذا الاطار تعريف مرض الموت و تحديده لمحاولة فهم الاختلافات التي تدور حوله؛ لم تحظ مؤسسة مرض الموت بتعريف تشريعي، وهي مؤسسة مستمدة من الفقه الإسلامي و عرفها الفصل 1595 من مجلة الاحكام العدلية " مرض الموت هو المرض الذي يعجز المريض فيه عن رؤية مصالحه الخارجة عن داره اذا كان من الذكور و يعجز عن رؤية المصالح الداخلة في داره اذا كان من الاناث و الذي يكون فيه خوف الموت في الأكثر و يموت و هو على تلك الحال قبل مرور سنة سواء كان ملازما للفراش او لم يكن واذا امتد مرضه وكان دائما على حال واحد و مضى عليه سنة يكون في حكم الصحيح."
وقد تبنى فقه القضاء هذا الموقف في العديد من القرارات
لفهم نية
مشرع سنة 1906 يجب الوقوف على إرادة المريض
المعاقد و هذا يقتضي التمييز بين ثلاثة صور مختلفة : فالمرض يؤثر على الإرادة
إيجابا ،فيعدمها او يعيبها ،او سلبا فتبقى
واعية ومتبصرة.
الفرع الأول: المرض يعدم الارادة:
يقدم جانب من الفقه المرض على انه مفقد للرضى
ومعدم لركن من اركان العقد ، ويتفق على انه بانعدام ملكة التمييز و الادراك تنعدم
الإرادة .
ولكن في
الحقيقة الامر التمييز بين الإرادة المنعدمة و المعيبة يعد من المسائل المستعصية،
فالفوارق بين هاتين الوضعيتين النفسيتين يصعب تحديدها
وقد يرجع
انعدام الإرادة اما لوجود مرض عقلي او عاهات طبيعية اذا ثبت انها صيرت صاحب
الالتزام عديم الميز وقت صدورها منه.
كما يمكن ان
تعتبر عدم القدرة على التصريح بالإرادة بالكيفية التي يقتضيها القانون ، مظهرا من
مظاهر انعدام الارادة و تطرح هذه المسالة في صورة الصم ،البكم ،العمى و غيرها من
العاهات الطبيعية4.
وهذا ما
أكدته محكمة التعقيب في قرارها عدد 5655 المؤرخ في 26 افريل 1949
وأصحاب
العاهات الطبيعية هم من ولدوا ومعهم خلل في تكوين اجسامهم او من تعرضوا لإصابة
بالجسم نتيجة حادث او مرض.
بما ان
الحماية القانونية اللازمة التي يرغب المشرع في تحقيقها للمتعاقد لا يمكن توفيرها
دون الاخذ بعين الاعتبار بكل الأسباب التي من شانها ان تعدم الإرادة فوَض النظر
للقاضي استنادا لسلطته التقديرية.
و على هذا
الأساس يرجع تقدير مدى تأثير المرض على قدرة التمييز و الادراك لنظر القاضي و
لاجتهاده المطلق .
و لكن في الحقيقة لا يمكن التسليم بهذا الراي ، رغم ما يحمله في طياته من اقناع، فالمشرع أورد الفصل 59 م اع في باب عيوب الرضى وهذا يبرز انه يصنف المرض-العاهات الطبيعية- ضمن عيوب الرضى.
الفرع الثاني: المرض يُعيب الإرادة
ان الفصل 59 م اع - وخلافا
للظاهر- لا يؤسس نظاما خاصا للمصابين بالمرض، فالمرض بانفراده لا يمكن اعتباره
معيبا للرضى؛ ولهاته الأسباب هناك من يقدم المرض ليس كعيب مستقل من عيوب الرضى و
انما لإثراء عناصر التقدير، لافتراض انه كلما كان المتعاقد مريضا الا و تفاقمت فرص و
إمكانية وقوعه في احدى عيوب الرضى
و بالتالي
يكون المشرع قد كرس الفصل 59 م اع لأنه يرغب
في إفراد المتعاقدين المصابين بمرض بحماية خاصة بمناسبة ابرامهم للتصرفات
القانونية و ذلك على مستوى تلقيهم للرضى من جهة، وعلى مستوى اثراء فرضيات معايير
تقدير عيوب الرضى اذا كانوا ضحيتها من جهة أخرى
وقد ربطت
محكمة التعقيب في ستينات و سبعينات القرن الماضي الصلة بين المرض المشار اليه ضمن
الفصل 59 م ا ع ومرض الموت المنصوص عليه بالفصل الفصل 565 م ا ع حيث الحقت مرض الموت بالنظرية العامة للرضا، و اعتبرت ان
احكامه لا تنطبق الا في صورة اشتداد المرض الى درجة الاضعاف من الإرادة او
حتى فقدها
يبرز من هذه الحيثية ان محكمة التعقيب لا تستطيع الجزم ان كان مرض الموت معدما للإرادة او معيبا لها فحسب ، وهذا لصعوبة وضع قاعدة عامة تنطوي تحتها جميع حالات مرض الموت،فكل مريض تختلف وضعيته عن غيره و تتاثر ارادته بالمرض بصفة معينة و من هنا تبرز وجاهة ترك المشرع للمسالة تخضع للسلطة التقديرية للحاكم، الذي يأخذ بعين الاعتبار الظروف و الملابسات التي تحف بالعملية التعاقدية .
وفي كل الحالات تكون مقاصد التشريع ترمي الى حماية الشخص الذي حفت به ظروف تسببت له في اعتلال جسماني، او تعطيل في ملكة التفكير خلفت له اضطرابا و فزعا شديدين على نفسيته، او وجد نفسه في ورطة ذات بأس شديد على ارادته جعلته عرضة اكثر من غيره للوقوع في عيوب الرضى.
ولكن تجدر
الاشارة الى ان مادة الالتزامات و العقود ليست الموضع الوحيد الذي تعرض فيه المشرع
للمرض، فالمرض يمتد تأثيره الى مادة الاحوال الشخصية و بالتحديد عقد الزواج الذي
يكون فيه احد الزوجين مريضا و قد الحق بعض الفقهاء هذا المرض بعيوب الرضى .
لم يتعرض المشرع التونسي بصفة صريحة الى عيوب الرضا في
عقد الزواج على أساس مرض القرين ، الا ان جانب من
فقه قد بين ان المرض في حد ذاته لا يشكل عيبا للرضى باعتبار ان المشرع لم
يضع على كاهل الزوجين واجب التمتع بالصحة صلب الفصل 23 م اش
و لكن فقه القضاء اعتبر مرض القرين معيبا لرضى المتعاقد الاخر اذا كان هذا
الأخير غير عالم بوجود هذا المرض زمن ابرام عقد الزواج و هذا ما أكدته محكمة التعقيب.
ولعل محكمة التعقيب استندت في قرارها على احكام الفصل 46 م اع و نسبت عيب الرضى الى الغلط في الصفة الجوهرية للمريض . وما من شك ان شخص المتعاقد في عقد الزواج يحتل أهمية قصوى و ان صفاته تتخذ مكانة معتبرة أدى المتعاقد الاخر.
ومهما يكن من الأحوال ، لا يمكن الجزم بان جميع الامراض تمس الرضى فتعدمه او تعيبه ، فالأمراض- كما سبق بيانه- تختلف أنواعها و درجات شدتها و من المحتمل ان يبقى رضى المريض سليما .
الفرع الثالث : المرض لا يؤثر على الإرادة
للوهلة الأولى يبدو هذا الطرح غريبا ، فكيف يمكن للمرض
ان يبقي على الإرادة السليمة للمتعاقد ؟
ولكن في حقيقة
الامر المرض الجسدي لا علاقة له في غالب الأحوال بالإرادة و قدرة المريض على بناء تفكير منطقي و سليم.
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار المريض في هذه الصورة لا
يحتاج لتدخل المشرع لحماية مصالحه فمن المفترض انه يتمتع بإرادة واعية يبني على
أساسها قرارات صائبة.
وربما تشمل هذه الوضعية -عدم تأثير المرض على الرضى –
مرض الموت اذا اعتبرنا ان المريض في مرض موته رغم ما قد يظهر عليه من ضعف و وهن
يبقى محتفظا بقدراته
ذهنية بل و يمكن ان يوقظ المرض في ارادته دهاء الى درجة تجعله يتحايل على قواعد الميراث لتفضيل احد الورثة او لحرمان جميع الورثة لصالح الغير.
و تجدر الملاحظة
انه بالرجوع الى احكام الفصل 565 م ا ع نجد ان المشرع يعتمد على قاعدة اكثر تعقيدا
مقارنة بالفصل 59 م اع و ذلك على مستوى الاثبات، حيث ان اثبات ان المرض يعيب الرضى
على معنى الفصل 59 م ا ع يتسم بالبساطة حيث يخضع بدوره الى القاعدة التي تفيد بان الوقائع
القانونية تثبت بجميع الوسائل على
عكس الفصل 565 و ما يضبطه من شروط مثل اثبات المحاباة.
فيطرح الاشكال هنا ما الجدوى من التشديد على مريض مرض الموت في الاثبات اذا ما سلمنا انه اخطر من حالة المريض العادي؟
قصد المشرع اثبات المحاباة في عقد البيع الذي يبرمه المعاقد المريض مرض موت، يمكن ان يبرر من خلال الطبيعة القانونية للحماية المكرسة حيث ان هذه الحماية على عكس ما يتبادر في الاذهان ليست موجهة الى المريض المتعاقد و انما هي في حقيقة الامر حماية موجهة لورثة المتعاقد و هو يؤكد ما سبق طرحه من ان المريض المتعاقد في مرض موته رضاه موجود و لا يشوبه اي عيب و هو ما يدعو معه الى التخلي عن فرضية ان مرض الموت مرتبط بالرضا.
ثانيا: تأثير المرض على الاهلية
الاهلية
هي قدرة الشخص على تحمل الالتزامات وعلى اكتساب الحقوق وممارستها، وقد
نص الفصل 3 من مجلة الالتزامات والعقود على ان "كل شخص اهل للإلزام
والالتزام ما لم يصرح القانون بخلافه "
وبما
ان الاهلية هي الأصل، فان
الحد منها يعتبر استثناء وبالتالي يجب ان يكون له سند قانوني وذلك تطبيقا للقاعدة
الاصولية التي تنص على ان الاستثناء لا يتوسع فيه1
و الاهلية نوعان : أهلية وجوب و أهلية
أداء.ويقصد بأهلية الوجوب
القدرة على تحمل الفرد للواجبات و تمتعه بالحقوق و ذلك منذ بداية شخصيته
القانونية الى غاية نهايتها ، اما اهلية
الاداء فهي قدرة الفرد على ممارسة الحق و
انعدامها لا يفقد الفرد حقوقه و لا شخصيته القانونية و انما يقيد اهليته .
ويتبلور تقييد اهلية الاداء في مظهرين اثنين انعدام الاهلية وتقييدها.
اما بخصوص الانعدام التام للأهلية اي فقدان الفرد للقدرة على التمييز، فهي
صورة كل من الصغير غير المميز والمجنون وذلك لعدم قدرتهم على التمييز بين الخير والشر
وبين الصواب والخطأ.
فالصغير غير المميز يسري عليه حكم القاصر على معنى الفصل 54 م ا ش
المتعلق بالولاية ويخضع مبدئيا لولاية والده. اما
المجنون تسري عليه نفس الاحكام الصغير
الغير مميز وذلك لحمايته، وقد عرف الفصل 160م ا ش المجنون واعتبره " الشخص
الذي فقد عقله سواء كان جنونه مطبقا يستغرق جميع اوقاته او متقطعا تعتريه فترات يثوب
اليه عقله فيها "
وتجدر الاشارة ان الحجر من اجل الجنون لا يتم الا بحكم من الحاكم وذلك
نظرا لخطورة المسالة وارتباطها بالذمة المالية للمريض، وبالتالي فان اساس الحماية
القانونية للمجنون (المريض) هي انعدام اهليته. لكن لابد من الاشارة في هذا النطاق
ان الحجر على المريض المجنون ليس حجرا مطلقا، اذ يمكن رفع الحجر بشرط ان يكون بنفس
الطريقة التي وقع بها أي عبر استصدار حكم قضائي في الغرض.
اما بالنسبة لتقييد اهلية الأداء، فتشمل كل من الأشخاص الاتي
ذكرهم في الفصل 6 م ا ع وهم الصغير المميز وضعيف العقل والسفيه والمفلس والمحكوم
عليه بأكثر من 10 سنوات سجن1.
انه ليبدو من الواضح في ربط لعلاقة المرض بالأهلية كأساس بين في مرض
الجنون مثلا بالتالي يكون مبنى الحماية القانونية المرتكز على الاهلية من جانب
الصواب ولكن هل يجوز تعميم ذلك على كل الامراض وكل انواع العقود؟
مما لا شك فيه ان تعميم هذه الفرضية على جميع الامراض من قبيل
الاستحالة ذلك انه كما وقع ذكره سابقا فان المرض الحسم (الفصل 59 م اع) لا تأثير
له، مبدئيا على الاهلية غير ان الامر يختلف بالنسبة لمرض الموت حيث ذهب عدد من
الفقهاء من بينهم احمد ابراهيم بك في معرض حديثه عن البيع في مرض الموت ان "
اساس ذلك البيع هو انعدام اهلية المريض انعداما عاما "
وبالتالي فان الاساس المعتمد هو الحجر ويقصد به فقدان الانسان لقدرته
على الالزام والالتزام وعدم مباشرته شخصيا ما يترتب عن تصرفه من حقوق وواجبات.
الحجر يختلف حيث هناك حجر
الشبهة وحجر الحماية فحجر الشبهة الهدف منه منع الشخص من تصرف مشبوه اما حجر
الحماية وهو موضوع اهتمامنا فهو الحجر الذي يهدف الى منع الشخص من التصرف لحمايته من
عواقب تصرفه وهو مبني على افتراض عدم كفاية الارادة لدرجة تمكن الشخص من الدفاع عن
مصالحه.
كذلك ينقسم الحجر بدوره حسب الدرجة الى حجر عام وحجر خاص، ففي الصورة
الاولى يكون انعدام الاهلية كليا اما في صورة الثانية فيكون الحجر مقتصرا على تصرف
معين.
ولئن يعتبر الاعتماد على الحجر كمبنى
قانوني للحماية صائب، فان الفقهاء انقسموا الى تيارين، تيار اول اعتمد على الحجر
العام، معللا ذلك بانعدام اهلية المريض المتعاقد اثناء التعاقد ويربط ذلك بالأهلية
لا بالرضا.
ويوافق هذا الرأي تماما الموقف السائد في الفقه الذي لا يشترط ان يؤثر المرض على المدارك العقلية، وبالتالي فان الراي القائل بان انعدام الاهلية يعد اساس يتوافق مع المبنى القانوني للحماية التي يكرسها المشرع للتركة وبالتالي للورثة
وفي هذا الاطار تجدر الإشارة الى قرار محكمة التعقيب بتاريخ 25 ماي 1976
الذي أسست فيه المحكمة العقد الذي ابرمه المريض مرض الموت على أساس انعدام
الاهلية.
ولكن يبدو ان هذا التوجه غير متماشي مع مقصد المشرع من الحجر العام،
حيث ان الهدف من الحجر العام هو حماية المريض وليس حماية التركة ونعني بالتحديد
الورثة.
حيث انه بالعودة
الى مفهوم الحجر العام، نجد ان المشرع يستعمل تقنية الحجر العام لحماية المتعاقد
المحجور عليه و الذي هو في نظره غير قادر على تقدير نتيجة تصرفاته و هو ما لا ينطبق في هذه الصورة، حيث ان المريض
مرض موت قصد ذلك التصرف بعينه و يدرك نتيجة تصرفه.
لذلك فان الحماية
المقصودة في الفصل 565 م ا ع، هي حماية الوارث لا حماية المريض لان حماية هذا
الاخير لا جدوى منها بعد حصول وفاته، لذلك فان مبنى الحجر العام نظرا لما يوفره من
حماية للمحجور عليه لا يتماشى مع صورة المريض مرض موت لان الحماية القانونية فيها
تتعلق بغير المحجور عليهم اي الورثة وهذا
ما اكدته محكمة التعقيب بدورها هذا من القرار التعقيبي المدني عدد 4408 بتاريخ 29 جانفي 1966 .
هذا الترابط ما
بين حماية الحقوق الخاصة للورثة من جهة و تقييد تصرفات المريض من جهة أخرى، لا
يرجع الى انعدام اهليته و الحجر العام عليه، بل يجد سنده في مؤسسة الحجر الخاص،
وهي كما سبق وذكرنا تتمثل في حرمان شخص ما من صلاحية مباشرة تصرف قانوني معين سواء
بنفسه او بواسطة.
يجد هذا التوجه سنده في التشريع الإسلامي، حيث اعتبر عديد الفقهاء المسلمين
على ان اهلية المريض تنقص في مرض الموت، وكنتيجة لهذا النقص وجب التحجير على بعض
تصرفاته، وهو من أبرز خصائص الحجر الخاص الذي يقتصر على تصرف محدد ولا يمتد الى
باقي تصرفات المحجور عليه.
يمكن ان ندعم هذا التوجه عبر التذكير بعقد
الزواج الذي يكون صحيح في تكوينه ولو كان المريض مريض مرض موت4ولعله
خير مثال دال على الحماية القانونية للمريض.
ومن هنا نتبين تلائم مؤسسة
الحجر الخاص مع تقييد تصرفات المريض.
من جهة اخرى تجد مؤسسة الحجر الخاص
سندها في مجلة الالتزامات والعقود، اولا من خلال الموقع الذي يحتله الفصل 565 م ا
ع حيث انه يعد الفصل الاول في قائمة الفصول المتعلقة بالحجر المسلط على بعض
الاشخاص في عقود البيع و الشراء و هو حجر من نوع خاص لانه يتعلق بفئة معينة من
الاشخاص و يتدعم ذلك بالنظر للفصول التي تليه.
اما السند الثاني المستمد من مجلة
الالتزامات و العقود، والداعم لمؤسسة الحجر الخاص كاساس للحماية القانونية، فهو
الفصل 6 المتعلق بتقييد الاهلية والذي جاءت فيه عبارة " و كذلك كل من يمنع
عليه القانون عقدا من العقود "
هذه الجملة تتوافق تماما مع مفهوم
الحجر الخاص، الذي لا يسلط على كل تصرفات المحجور عليه ، انما يمتد الى تصرف معين
و يمكن ان نستدل على ذلك باعتبار ان هذا الفصل متعلق بتقييد الاهلية ليس انعدامها و بالتالي، فان الاهلية في هذه
الصورة ليست كاملة وفي الان نفسه ليست
منعدمة بل هي مقيدة من اجل مصلحة معينة تقتضيها المنظومة القانونية .
يستجيب هذا التأويل للفصل 6 م ا ع
للصبغة الاستئنافية لاحكام الفصل 565 م ا ع التي لا تخول الطعن الا في نوع معين من
البيع الا وهو بيع المحاباة او البيع بما يتجاوز ثلث التركة فالمنع هنا يعد خاصا.
ومن الضروري الاشارة الى ان مؤسسة
الحجر الخاص تتماشى مع بقية العقود التي يبرمها المتعاقد والتي لا تكون بالضرورة
بيع، من ذلك الفصل 206 من مجلة الأحوال الشخصية، والذي يعتبر ان هبة المريض مرض
موت تسري عليها احكام الوصية2 ،و بالتالي فهي تكون جائزة فقط في حدود
الثلث ،وهو نفس حكم الفصل 355 م ا ع الذي يعتبر ان الاسقاط الصادر من
الدائن لغير وارثه في مرض موته يعتبر في ثلث مخلفه.
المرض ذاته بالنسبة لعقد الكفالة حيث ان الفصل 1481 م ا ع نص على
"كفالة المريض اثناء مرض موته لا تصح الا في ثلث ماله الا إذا رضي ورثته بما
هو أكثر "
وبالتالي يصح القول باشتراك كل هذه
العقود في خضوعها لمؤسسة الحجر الخاص اذا ما اقترنت بمرض، حيث انها لا تتنافى مع
احكامها. و بالرجوع الى هاته الفصول، يمكن
لنا ان نستجلي بوضوح ان الحماية القانونية هي مكرسة أساسا لحماية للورثة ، حيث ان
القاسم المشترك بين هذه العقود انها مبدئيا لا تصح الا في حدود الثلث و ما خرج عن
هذا الثلث يستوجب اجازة الورثة .
و قد يطرح التساؤل هنا عن الصور التي
لا ينشق فيها الورثة بين مجيز و رافض للإجازة
وهو ما يدعونا للبحث عن اثار هذه الحماية القانونية التي كرسها المشرع لعدم
تمكن مورثهم من الاضرار بحقهم في التعلق بالتركة ، و هو ما يدفعنا بالضرورة للحديث
عن مختلف الجزاءات التي تطرح في هذه المسألة، خاصة و انه يوجد من الفقهاء من يعتبر
انه حتى الحجر الخاص هو اساس منتقد و من بينهم الاستاذ يوسف كناني الذي يعتبر ان
الحجر الخاص له مظاهر مختلفة و لا يمكن اعطاءه مفهوما محددا1 وهو
تقريبا نفس توجه العميد "كاربونيه"2 الذي يعتبر ان التمييز
بين الحجر الخاص و الحجر العام يصعب ذلك باعتبار ان الحجر العام بدوره يعرف
استثناءات مثال صورة المريض المحجور عليه لضعف عقله الذي يستطيع القيام ببعض التصرفات في الفترات
التي يكون فيها مدركا وواعيا بما يقوم به.
الا انه ورغم هذه الانتقادات الموجهة للحجر الخاص الا انه يبقى الاساس
الاكثر تماشيا مع احكام الفصل 565 م ا ع والاكثر انسجاما مع منظومة مرض الموت
عموما.
وامام هذا الموقف وذاك يبرز ان مرض
الموت في القانون التونسي لا يمكن ان تصوره خارج إطار الاهلية.
وامام تعدد الامراض واختلاف تصنيفاتها،
وبالتالي الاختلاف في تكييفها، تعددت الاسس الامر الذي سيطرح صعوبة في تحديد
الجزاء كأثر للحماية القانونية.
الجزء الثاني : آليات الحماية القانونية للمريض المتعاقد:
تستو
تستوجب الحماية القانونية للمريض وجود آليات تتمثل في مجموعة من الجزاءات المدنية˓
منها ما هو مكرس تشريعيا (أولا) و أخرى مستمدة من الفقه (ثانيا)
أولا :الآليات المكرسة تشريعيا :
أصبح من الجلي أن المرض يؤثر على العقود المبرمة من جانب المريض المتعاقد ˓
و هو ما يبرر تدخل المشرع و تبنيه لنظرية البطلان بنوعيه المطلق و النسبي .
فإذا تعلق المرض بأحد الأركان الجوهرية للعقد فانه يرتب البطلان المطلق ˓
أما في صورة المساس بأحد شروط تكوينه فانه يسلط على العقد جزاء البطلان النسبي.
الفرع الأول : صور تسليط
جزاء البطلان المطلق على عقد المريض
يترتب البطلان المطلق في عقد المريض إما لانعدام الأهلية
أو تقييدها ˓أو لفقدان الرضا .
و يصنف فاقد العقل ̎ المجنون ̎ من بين عديمي الأهلية الذين لا تستقيم عقودهم و
تصرفاتهم عموما باعتبار أن شرط الأهلية كركن أساسي لتكوين العقد مفقود˓ و ذلك
تطبيقا للفصل 2 من مجلة الالتزامات و العقود ˓ و لا يتصور قيام العقد إذا خلى ركن من أركانه .
و تفريعا على ذلك فان تصرفات المجنون لا يمكن أن تعتبر
إلا باطلة بطلانا مطلقا عملا بمقتضيات الفصل 325 م ا ع و الذي جاء فيه ما يلي ̎
̎ ليس
للالتزام الباطل من أصله عمل و لا يترتب عليه شيء إلا استرداد ما وقع دفعه بغير حق
بموجب ذلك الالتزام
و يبطل الالتزام من أصله في الصورتين الآتيتين :
- إذا خلا ركن من أركانه (...)
و تكون تصرفات المجنون قبل الحجر عليه غير نافذة كما جاء
بالفصل 163 من مجلة الأحوال الشخصية حماية لمصلحة الغير .
و يبرز مرض ضعف العقل كسبب لتقييد أهلية المريض و ذلك
بداية من تاريخ صدور قرار الحجر عليه من القاضي المختص˓ بحيث تكون تصرفاته اللاحقة
لقرار الحجر خاضعة للأحكام التي تسري على تصرفات الصغير المميز.
من ذلك أنها باطلة بطلانا مطلق إذا كانت ضارة ضررا محضا
˓ و تكون صحيحة و نافذة إذا كانت نافعة نفعا محضا˓ في حين تكون قابلة للإبطال حسب
مصلحة المريض ̎ ضعيف العقل ̎ إذا كانت التصرفات دائرة بين النفع و الضرر.
في هذا الصدد أشار الفصل 162 م ا ش إلى أن التصرفات التي
يقوم بها المحجور عليه بدون مساعدة الولي تكون قابلة للإبطال إذا لم يجزها الولي.
إما بالنسبة لتصرفات ضعيف العقل السابقة للحجر اشترط
المشرع لإبطالها اشتهار المريض بضعف العقل زمن إبرامه للعقد عملا بأحكام الفصل 162
مم ا ش.
و في هذا السياق نذكر القرار التعقيبي المدني المؤرخ في 25 فيفري 1992˓ حيث أكدت فيه المحكمة
إن ضعف المدارك العقلية يجعل العقود التي ابرمها المريض في هذا التاريخ باطلة حتى
قبل صدور حكم التحجير لان المتعاقد كان مشهورا بضعف العقل.
لكن يبدو ان تضاربا قد تسرب إلى التطبيق ˓حين الحق جانب
من فقه القضاء العاهات الطبيعية المؤثرة للإدراك بعوارض الأهلية ˓ معيبة للرضا
فمفقدة لركن من أركان العقد و هذا ما صرحت به محكمة التعقيب في قراراها في 1949. و
لا نخفي استغرابنا من هذا القرار الذي يصرح بكون العاهات الطبية مفقدة للميز من
جهة و معيبة للرضا من جهة أخرى2 و يبدو أن المحكمة في قرارها المذكور
تخلط بين فقدان التمييز الذي يمثل عارض من عوارض الأهلية و المرتب للبطلان المطلق
و بين نظرية عيوب الرضاء المسلطة لجزاء البطلان النسبي .
و لسائل أن يسال أي الجزائيين يسلط على تصرفات المصابين
بالعاهات الطبيعية ؟
الفرع الثاني
: صور تسليط البطلان النسبي على عقد المريض :
و كما سلف الذكر أن العاهات الطبيعية تندرج ضمن الحالات
المشاكلة للمرض المنصوص عليها صلب الفصل
59 م ا ع ˓ الذي منح للقاضي سلطة تقديرية
أصبح بمقتضاها يقدم المرض كسبب من أسباب الإبطال كلما
كان المتعاقد
ضحية غلط أو تغرير أو إكراه (الفصل 43)
فتصرفات المصابين بعاهة الصم و البكم لا يمكن لتصرفاتهم
التعاقدية إن تكون صحيحة و نافذة إلا في صورة إثبات ما يفيد حضور مترجم محلف مختص
في لغتهم و تلاوة محضر العقد عليهم بلغة إشارتهم الخاصة و إلا فان مال العقد المبرم هو البطلان النسبي الذي
يمكن تفاديه و ذلك بإجازته من طرف المتعاقد المريض.
نفس الحكم ينسحب على تصرفات المصاب بعاهة̎ العمى ̎
فلا تقوم صحة العقد إلا إذا وجهت
لهم نسخة من العقد بالكتابة ̎ برايت ̎ و إقرارهم
بالإدلاء و الامتثال لهذا الإجراء الو جوبي لصحة و نفاذ العقد و إلا يكون
عرضة للإبطال و لا يصح فيما بعد إلا
بإجازة المريض̎ الضرير̎ .
لكن لا مناص من الإشارة إلى إن إجازة المريض على العقد المخل بصحة تكوينه هو بمثابة تخليه التام عن الحماية القانونية التي منحه إياها المشرع بمناسبة تكريسه لهذا الجزاء.
و تبعا لذلك فان المرض و لئن كان عارضا من
عوارض الأهلية و معيب للرضا فان مرد ذلك هو حماية هاته الأطراف الضعيفة التي قد تؤدي
بمصالحها إلى الهلاك نضرا للاضطرابات العقلية التي تعاني منها لذلك فان جزاء
البطلان أو قابلية الإبطال التي تسلط على
العقود ليست الغاية منه العقاب لأنه من منظور مدني يبدو من المستبعد الحديث
عن عقاب و عقوبة بل غايتها هي حماية أطراف مستضعفة لا تعرف مصلحته˓ غير إن هذه الحماية لا تشمل جانب دون آخر فإلى
جانب المريض فإنها تشمل الغير .
و كما اشرنا سابقا إلى أن مرض الموت أساسه هو
الحجر الخاص المسلط على المريض سنه المشرع حماية للورثة˓ و هذه الحماية نستشفها
بالرجوع لى أحكام الفصول 565 ˓354 و 355 م ا ع المنظمة لمرض الموت في عقد البيع و
التي تكرر فيها عبارتي الوارث و المورث و استعمال هاتين الكلمتين يسلط الأضواء على
الأشخاص الذين أراد المشرع حمايتهم .
و عليه فإن مجمل تصرفات المريض مرض الموت في عقد البيع
قابلة للإبطال على ذلك الأساس و لقد خول القاضي للورثة القيام بطلب الإبطال
باعتبارهم هم من تتوفر فيهم الصفة و المصلحة لتعلق حقوقهم بتركة المريض ذلك أن
المشرع لم يتغافل على ما عساه أن يصدر عن مريض مرض الموت من هبات صورية تمس من
حقوق الورثة
حيث اقتضى الفصل 565 م ا ع إن ̎ بيع المريض في مرض موته يجري عليه حكم الفصل
354 إذا كان لوارث و ظهر فيه قصد المحاباة كان يبيع له بأقل من الثمن المتعارف
بكثير أو يشتري منه بأزيد. و إذا كان البيع لغير وارث يتنزل عليه أحكام الفصل 355
̎ .
و نستخلص من النص وجود صورتين لبيع المريض
مرض الموت و بحسب صفة المنتفع من تصرف المريض :
فإذا كان البيع لوارث فانه تطبيقا للفصل 354 يكون البيع باطلا نسبيا
كليا أي انه يشمل كامل العقد و من أثاره
إن يبطل كل البيع و يسترد الورثة كامل البيع و هذا البطلان يمكن فيه الإجازة و
تكون كلية أي صادرة عن جميع الورثة .
أما إذا صدرت الإجازة عن بعضهم دون البعض
الآخر فان العقد يبطل في حق من لم يجزه فقط و هذه صورة من صور البطلان الجزئي
للعقد.
أما إذا كان البيع لغير وارث فالبيع في هذه الصورة صحيح و نافذ في حدود الثلث و هذا ما تضمنه الفصل 355 م ا ع , و الذي جاء فيه أن " الإسقاط الصادر عن الدائن في مرض موته يعتبر في ثلث مخلفه بعد استيفاء الديون و مصاريف جنازته " .
و بقراءة عكسية لهذا نستنتج انه فيما زاد عن الثلث يكون قابل للإبطال و لكن لا مناص من التساؤل عن إمكانية إجازة الورثة للجزء الباطل من العقد في هذه الصورة
لم يقر المشرع صراحة امكانية اجازة الورثة بل
اكتفى بالقول ان "البيع يعتبر في ثلث المخلّف " و الوقوف عند عند هذا
الفصل يجعل البيع في هذه الحالة غير مستوجب للاجازة ، لكن بالرجوع ال احكام الوصية
لتي استقى منها المشرع احكام البيع في مرض الموت نتبين إن الفصلين 179 و 187 ا ش
يتحدثان عن إجازة الوصية لغير وارث فيما زاد عن ثلث المخلف .
و بتطبيقنا لأحكام الفصول المذكورة عل الفصل
355 فان الإجازة تكون ضرورية و الا
فما الفائدة من تصريح المشرع بان البيع يعتبر في الثلث فقط ان لم يكن الباقي متوقف
على اجازة الورثة4
و هذا الحل اقره المشرع صراحة في عقد الكفالة، كما يمكن ان يسلط البطلان النسبي على عقد الهبة إذا اقترن بمرض الواهب وكان المرض خطيرا متصلا بوفاته فتصيّر الهبة وصية.
و بناء على ما تقدم يبدو أن البطلان النسبي هو الجزاء الأنسب و الأكثر كفاءة لتسليطه على تصرفات المريض و يبدو هذا الاتجاه هو السائد في بعض قرارات محكمة التعقيب حيث نرصدها في مناسبتين تستعمل عبارة "الفسخ "، و هي عبارة يستعملها المشرع للدلالة على البطلان النسبي .
و هذا التوجه نجد له صدى في عقد الزواج حيث
قضت الاستئناف محكمة في قرارها عدد
26267 المؤرخ في 30 نوفمبر 2005
بإبطال عقد زواج مريض مرض الموت بطلب من الورثة ،و أسست قرارها على اعتبار أن من
شان الزواج أن ينقص من أموال المورث (المريض)، ومن استحقاق الورثة إرثا فيه مما
يصير سبب التزام مورثهم في ذلك العقد غير مشروع و قابل للفسخ .
و تجدر الإشارة في هذا الصدد أن محكمة
الاستئناف نسجت قرارها على أحكام الشريعة الإسلامية و تحديدا المذهب المالكي الذي
كان يمنع صراحة زواج الشخص المصاب بمرض مخوف
و هذا الموقف يتناقض و مقصد المشرع الذي يفصح
المجال "للمحتضر" ليتمكن من عقد قرانه بل و إعفائه صراحة من الإدلاء
بالكشف الطبي السابق للزواج بموجب الفصل الفقرة 2 من الفصل الخامس من قانون 3
نوفمبر 1964 المتعلق بالشهادة الطبية السابقة للزواج ،على غرار المشرع الفرنسي
الذي عمد إلى غلق باب الطلاق في فرنسا قبل 1884 لذلك كان الراغب في استعادة حريته
بسبب مرض قرينه يطرق باب البطلان
الفرع الثالث: تسليط جزاءات أخرى (مال
عقد شغل المريض) :
فضلا عما تقدم فقد جعل قانون الشغل من المرض سببا في
تعليق عقد الشغل عملا بمقتضيات الفصل 20 من مجلة الشغل لاعتبارات تتعلق بمصلحة
الأجير و ترتبط أساسا بحقه في الرعاية الصحية و المحافظة على مكان عمله و منحه
الحق في التداوي و تغطية كل المصاريف التي تترتب عنه و بهذا يتحقق البعد الحمائي .
إلا أن هذا
الطابع الحمائي لا يشمل الأجير المريض دون سواء فقد اقر المشرع ضمانا لاستمرارية
العمل و مراعاة لمصلحة الأجير أجاز إمكانية اعتبار أن مرض الأجير من مسببات إنهاء
العلاقة الشغلية 1
كلما توفرت معطيات تجعل من تواصل العمل أمرا مفقدا للجدوى و الفاعلية 2وهو
ما يضر بمصلحة الأجير.
وتبعا لذلك فالطابع الحمائي في هذه الصورة يتحقق سواء
كان للأجير أو المؤجر.
ويستخلص من مجمل هذه الجزاءات المسلطة على المريض المتعاقد أنها تهدف لفرض
نوع من الحماية لفائدة المريض تارة و الغير تارة أخرى .
إلا انه لا مناص من القول إن بعض من هذه الجزاءات في بعض الأمراض كمرض
الموت بالأساس يوحي بالغموض و لعل مرد ذلك التضارب الصارخ بين المصدر الذي استقى
منه المشرع أحكام مرض الموت و هي الشريعة الإسلامية ،حيث جعل فقهاء الشريعة
الإسلامية جزاء تصرف المريض مرض الموت هو العقد الموقوف .
ثانيا الاليات المستمدة من الفقه :
لئن كرس المشرع التونسي جزاء البطلان كألية
لحماية المريض المعاقد ومن لحقه ضرر، الا انه تغافل عن اليات أخرى نجد صداها في
الفقه وفقه القضاء مستمدة أساسا من التشريع الإسلامي باعتباره من المصادر المادية
لقانوننا الوضعي.
ولعل أهمها الية العقد الموقوف، وهو
"التصرف المشروع بأصله الذي يتوقف ترتب أثره على الاجازة ممن يملكها
شرعا" وهو أيضا عقد " تعلقت
اثاره ولا يمكن تنفيذه أي عقد في حالة سبات "
و قد اعتمد العقد الموقوف كجزاء، بالأساس على
العقود التي يبرمها المريض مرض الموت مثلما هو الحال في التشريع الإسلامي الذي وضع
و نظم مؤسسة مرض الموت.
لكن مشرعنا اقتصر على ادراج هذه المؤسسة ضمن
قانوننا الوضعي دون ان يأخذ بنظرية العقد الموقوف كجزاء، و الحال ان اللجوء لهذا
الجزاء امر بديهي و ذلك باعتبار ان الاحكام المنظمة لتصرفات المريض مرض الموت
متجذرة في الفقه الإسلامي الذي ميز بين التصرفات الصحيحة و التصرفات غير الصحيحة.
وتجدر الإشارة انه بالرجوع للفصول المتعلقة
بمرض الموت، نتبين ان المشرع لم يعتمد عبارة " العقد الموقوف" بل نجده
يعتمد صلب الفصل 354م ا ع المتعلق بالبيع لوارث4
بعبارة "لا يصح" التي تفيد ان الاجازة تصحح العقد، ويعتمد في الفصل
المتعلق بالبيع لغير وارث 355 م اع عبارة "يعتبر"5. و بالرجوع للترجمة الفرنسية لهذا الفصل نتبين
ان المشرع "اعتمد عبارة التي تفيد
الصحة.est valable "
و بالتاويل العكسي للفصل 355م ا ع نتبين ان
البيع الذي تجاوز ثلث التركة غير صحيح و بالتالي فالبيع يكون صحيحا فقط في حدود
الثلث ، الامر الذي يخالف ما اقره الفقهاء و لا يتماشى مع منطوق الفصل 394 من مجلة
الاحكام العدلية الذي ينص على انه " اذا باع المريض بثمن المثل صح بيعه و ان
باعه دون ثمن المثل و سلم المبيع كان بيعه بيعا فيه محاباة تعتبر في ثلث ماله وان
كان الثلث لا يفي لزم المشتري المال ما نقص من ثمن المثل و اعطاءه للورثة فان فعل
لزم البيع و الا كان للورثة فسخه"
و بالتالي نتبين ان المشرع التونسي من خلال عدم اخذه
بألية العقد الموقوف ،انه يعتبر ان
عقد البيع
المبرم من قبل المريض مرض الموت عقد غير صحيح، خلافا لفقهاء التشريع الإسلامي
الذين اجمعوا على اعتباره بيع صحيح يتوقف على إجازة الورثة.
اما اذا تطرقنا الى الوصية ، لوجدنا ان الفصل
187 من مجلة الأحوال الشخصية1 ورغم
اعتماده لعبارة "توقف " فلا يمكن الجزم
بان المشرع اعتمد العقد الموقوف، و ذلك باعتبار ان عبارة التاويل تتعلق
باثار تنفيذ العقد الصحيح.
ويتدعم موقف المشرع الرافض بجملة من القرارات
الذي ذهبت في الاتجاه اقصاء الية العقد الموقوف واعتماد البطلان ، على غرار القرار المؤرخ في 26 افريل 1949 حيث
جاء في حيثيته" وحيث ان العقود المجانبة كالتبرعات و الاسقاطات التي هي عين
في اللامحاباة قد تعرض لها الفصلان 354 و 355م ا ع فان كانت لوارث فصحتها مطلقا
تتوقف على إجازة الورثة وان كانت لغير وارث فتخرج خرج الوصية"
ما يلاحظ مما سبق ان المحكمة و لئن اعتمدت
عبارة" صحتها تتوقف" فهي لم تقصد العقد الموقوف. لكن ذلك لم يمنع وجود
قرار اعتمدت فيه المحكمة على العقد الموقوف كالية لحماية الورثة رغم انه قرار وحيد
و عقيم.
كما اعتبر جانب من الفقهاء ان المشرع التونسي
"اقر ضمنيا اءلية العقد الموقوف و الذي هو من العقود المستكملة العناصر،
صحيحة الاوصاف لكن نفاذها يتوقف على إجازة الورثة"
رغم هذا التردد، فالمشرع التونسي تجنب
تكريس نظرية العقد الموقوف أي الاجازة في
الجزاءات المنظمة في مجلة الالتزامات و العقود في اطار النظرية العامة للالتزامات
و ذلك لما قد تدخله من اضطرابا على نظام الجزاء الذي يتبناه مشرعنا و القائم على
التفرقة الأساسية بين الفسخ و البطلان .
و لعل هذا الاقصاء يبرر أيضا بعدم اجماع الفقهاء المسلمين و اختلاف المذاهب الفقهية حول طبيعة العقد الموقوف كجزاء. فبينما اعتبره كل من المذهب المالكي و الحنفي من قبيل التصرفات الصحيحة ،اعتبره المذهب الشافعي و الحنبلي و اهل ظاهر من العقود الباطلة.
إرسال تعليق