وسوف نقتصر في بحثنا
هذا على تناول أهم الحالات التي غالبا ما أثارت جدلا فقهيا بخصوص تحديد طبيعة
الجزاء المترتّب
عن الإخلال بها دون التطرق إلى مختلف الحالات الواردة صلب مجلة
الالتزامات والعقود، ونعني بذلك التصرفات المخلة بالمصلحة الخاصة لأحد المتعاقدين
والتصرفات المخلّة بالمصلحة الخاصة لأطراف غير متعاقدة.
1-الإخلال بمصلحة خاصّة
لأحد المتعاقدين
من
أهم التصرفات التي تمس بالمصلحة الخاصة لأحد المتعاقدين والتي كثيرا ما أثارت
نقاشا فقهيا إختلفت فيه الآراء وتعددت حول تحديد طبيعة الجزاء المترتب عن الإخلال
بها الفصل 454 م.إ.ع المتعلق
بتصرفات الأمي والفصل 568
م.إ.ع
أ- الإخلال بمصلحة الأمي
جاء
بالفصل 454
م.إ.ع أن "التزام الأمي الذي لا يحسن الكتابة، لا يمضي حتى يتلقاه عدول أو
غيرهم من المأموريين العموميين المأذونيين في ذلك". والمقصود بالأميّ هو
الشخص الذي لا يحسن الكتابة، هذا التعريف الذي جاء بالفصل المذكور والذي يتضح من
خلاله أن المشرع قد حصر الأميّ في الشخص الذي لا يحسن الكتابة دون سواها وهو ما لم يسايره فيه فقه القضاء الذي وسع في
هذا المفهوم معتبرا أن الأمي هو الشخص الذي لا يحسن القراءة والكتابة، وقد أكدت
على ذلك محكمة التعقيب بقولها أن" لفظة الأميّ التي إستعملها المشرع صلب مجلة
الالتزامات والعقود في الفصل 454
يتعلق بالشخص الذي يلتزم وهو لا يحسن القراءة والكتابة ". هذا قد استبعدت محكمة التعقيب صفة
الأميّة عن الأشخاص الذين يعرفون لغة واحدة حتى ولو كانت غير تلك التي حرّر بها
العقد وذلك لامكانية ترجمتها
وإذا
كان الإجماع حاصلا حول تعريف الأميّ عند فقه القضاء فإن الاختلاف يبقى قائما
ومسلما به حول تحديد طبيعة الجزاء المترتب عن الإخلال بالشكلية التي أوجبها الفصل 454
م.إ.ع. خصوصا وأن المشرع صريح في اعتبار هذا الالتزام " لا يمضي " حتى
يتلقاه عدول أو غيرهم من المأموريين المأذونيين في ذلك.
بمعنى أن تصرفات الأمّي لا قيمة قانونية لها ما
لم تتم أمام الأشخاص المذكورين وتظل باطلة وليس لها أي أثر قانوني وهذا الموقف أكدته محكمة التعقيب في جل
قراراتها وأيدها في ذلك الفقه. ولكن هذا الإجماع يخفي في الحقيقة إختلافا جوهريا
يتعلق بطبيعة هذا البطلان فهل هو بطلانا
مطلقا أم بطلانا نسبيا؟ فالمشرع استعمل كلمة " لا يمضي" للدلالة
على هذه التصرفات بدون أن يقر بطبيعة هذا البطلان ولا الأشخاص المخوّل لهم حق
المطالبة به.
ولتحديد
طبيعة هذا الجزاء كان لا بد من التوقف عند رأي محكمة التعقيب، فقد ذهبت في مرحلة
أولى إلى إعتبار أن إلتزام الأميّ باطلا بطلانا مطلقا وقد أكدت ذلك في قرارها عدد 11113
المؤرّخ في 25
ديسمبر 1984 "حين إعتبرت
بأن البيع الصادر من مورث الطرفين بموجب كتبين بخط اليد يعتبر صادرا من أميّ مما
يجعل الكتبين انعقدا منذ إبرامهما باطلين بطلانا مطلقا لتنصيص القانون بالفقرة
الأخيرة من الفصل 325
م.إ.ع والفصل 454
منها وأن مجرد إمضاء الوكيلين أسفلهما لا يكسبهما صحة لأن العقد الباطل من أصله لا
تصححه إرادة الطرفين ولا مضي المدة وللمحكمة أن تتمسك ببطلانه حماية للصالح العام
في كل درجة من درجات القضاء".
وفي
قرار آخر لها صادر بتاريخ 9
ديسمبر 1980 أكدت فيه محكمة
التعقيب أن أحكام الفصل 454
م.إ.ع تتعلق بالنظام العام "وهي أحكام آمرة يكون جزاء الإخلال بها البطلان
المطلق، ويحق للمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها وقد برّرت موقفها هذا بأن
قالت" بأن عبارة لا تمضى الواردة بالفصل 454 م.إ.ع قد وردت على
إطلاقها مما يعني أن المشرع قد سعى إلى حماية صنف من المتعاقدين وهم الذين لا
يحسنون القراءة والكتابة وقد فعل ذلك تفاديا لما عسى أن تتعرض له حقوقهم من ضياع
بسبب ضعفهم الثقافي .... "
غير أن هذا الموقف لم
يقع التسليم به بل أنه تعرض إلى النقد الشديد في مستويات عدة :
إستناد محكمة التعقيب
للفصل325
م.إ.ع واعتبار تصرفات الأميّ حالة خاصة من حالات البطلان المطلق لا يقبل التصحيح
ولا الإجازة من دون أن تبرز المعطيات التي إعتمدتها للتوصل إلى هذا الرأي والحال
أن هذا الفصل 454
م.إ.ع لا ينص على هذا الجزاء صراحة
في خصوص المصلحة
المحمية بالبطلان فقد كان تبرير محكمة التعقيب في بعض قراراتها متجافيا مع أساس البطلان المطلق الذي هو جزاء
الإخلال بالقواعد التي تتصل بالنظام العام بل أن تبريرها كان متماشيا مع نظرية
البطلان النسبي، فالمصلحة التي قصد المشرع حمايتها لا تتصل بالنظام العام بل هي
مصلحة خاصة بالأميّ وحده.
وقد
كان لهذا النقد سببا في ظهور رأيا آخر يبدو وأنه الأكثر إنسجاما من الرأي الأول
يعتبر أصحابه أن جزاء الإخلال بشكلية الفصل454 م.إ.ع هو البطلان
النسبي وذلك بالنظر إلى طبيعة المصلحة
المحمية، فأحكام هذا الفصل لها صبغة حمائية تتمثل في حماية مصلحة فردية وهي مصلحة
الأميّ ولا علاقة لها بأية مصلحة عامة.
فالعقود التي يبرمها الأميّ يكون فيها طرفان غير
متكافئين وتغيب عندئذ المساواة الحقيقية، بما يجعل العقد يشبه إلى حد كبير عقد الإذعان
أي أن عدم تكافئ أطرافه من حيث توفر إرادة واعية ومدركة تمام الإدراك بما تقوم به،
فالأميّ يكون هو الأكثر عرضة للمغالطة والتحيل لذلك كان من الواجب توفير الحماية
له وذلك بإعطائه حق إبطال تصرفاته.
لهذا
السبب ذهب الفقه إلى إعتبار الجزاء الخاص بإلتزام الأميّ صورة ضمنية من صور
البطلان النسبي بموجب نص خاص وقد سايرته في ذلك محاكم الموضوع ومحكمة التعقيب حيث
أكدت في قرارها عدد 7834
أن "ما إقتضاه الفصل 454
م.إ.ع لا يهم النظام العام وإنما ورد لحماية مصلحة الخصوم "، وهو نفس الموقف الوارد في حكم ناحية تونس عدد 9132 الصادر في 27
مارس 1990
وعلى
هذا الأساس فإنه يمكن التسليم بوجاهة هذا الموقف مع إعتبار أن الفصل 454
جاء لحماية مصلحة خاصة هي مصلحة الأميّ، وأن الشكلية التي أوجبها هذا الفصل هي
مفروضة لحماية حقوق صاحب التصرف القانوني حيث يكون له حق المطالبة بإبطال تصرفه ما
لم يتم أمام العدول أو غيرهم من المأموريين المأذونيين في ذلك، كما له حق تصحيح
وإجازة تصرفه شريطة أن يكون على علم وبيّنة بالعيب اللاحق بتصرفهومن ثمة فإن بقاء تصرفه يبقى مرتبطا
بإرادته فله حق إبطاله إذا كان مضرا بحقوقه، وله وحده حق إجازته لأن المصلحة التي
أراد المشرع حمايتها هي بالدرجة الأولى مصلحة خاصة بالأميين وهي السبب الرئيسي
التي جعلته يشترط في مثل هذه التصرفات ضرورة تلقيه من العدول والمأموريين
العموميين وذلك ضمانا لحقوقهم حتى لا تهدر بسبب عجزهم الثقافي وعدم معرفتهم للأمور، وبالتالي يكون البطلان هنا نسبيا لأنه يرتبط بحسب طبيعة
المصلحة التي أراد المشرع حمايتها، وكذلك بحسب الأشخاص الذين خولهم حق ممارسة دعوى
الإبطال وإجازة هذه التصرفات وهو نفس القصد الذي نجده مكرسا تقريبا في الفصل 568
في مجلة الالتزامات والعقود.
ب- الإخلال بمصلحة المنظور عليه في عقود وليّه
مع نفسه
مثلما
رأينا فإن أهلية الوجوب ترتبط بالشخصية القانونية للفرد، فهي تكتسب بإكتسابها وتثبت
بثبوتها وتكتمل باكتمالها وتنقص بنقصانها وتنعدم بانعدامه، والأصل في هذه الأهلية
أن تكون كاملة وموجودة إلا ما إستثناه المشرع صراحة في بعض الحالات الخاصة، حيث
يحرم الشخص بمقتضى نص خاص من إكتساب حق معين سواء بنفسه أو عن
طريق غيره وذلك حماية للمصلحة العامة. ومثال ذلك حرمان القضاة والمحامين ومساعدي
القضاء من كسب الحقوق، بالشراء أو بالإحالة المتنازع فيها لدى المحاكم التي
يباشرون فيها سوى كان بالشراء أو الإحالة بإسمهم أو بإسم غيرهم ( الفصل 566
م.إ.ع ) وعلى الوسطاء والخبراء من شراء
الأموال المكلفين ببيعها (567 م.إ.ع) وعلى
السماسرة والحرفاء من شراء الأموال المأمورين ببيعها أو بتقويمها (569 م.إ.ع) وهي حالات
يكون جزاء الإخلال بها البطلان المطلق.
وفي بعض الحالات الأخرى يكون فيها الحجر حماية
لمصلحة خاصة ومثال ذلك ما نص عليه الفصل 568 م.إ.ع الذي جاء
فيه"وكلاء الإدارات البلدية ورؤساء المصالح العامة والأوصياء والمقدمون
والنظار المتصرفون
في أموال أبنائهم وأمناء التفليس والأشخاص المعينون لتصفية حساب الشركات عند
انحلالها ليس لهم أن يقبلوا لأنفسهم إحالة ما وقع تفويته من الأموال التي بنظرهم،
كما لا يسوغ لهم أن يقبلوا لأنفسهم إحالة ما على من لنظرهم من الديون.ولكن يجوز
التصديق على الإحالة أو البيع ممن وقع في حقهم إن كانت لهم أهلية التفويت أو من
المجلس أو من غيره من الحكومات ذات النظر".وقد أثار هذا الفصل
نقاشا فقهيا في خصوص الجزاء المترتب عن الإخلال به، فذهب البعض إلى إلحاقه بنظرية العقد الموقوف وإستندوا في ذلك
إلى سببين إثنين :
أولا : سكوت المشرع
أو عدم تنصيصه على البطلان كجزاء لتلك التصرفات، مثلما فعل في الفصول الأخرى 566
و 567
م.إ.ع وهذا السكوت يفهم منه وأن المشرع قد تخلى عن نظرية البطلان لفائدة نظرية العقد الموقوف.
ثانيا : ما يستبعد
أيضا الأخذ بنظرية البطلان هو إعطاء المشرع حق ممارسة التصديق على هذه التصرفات
للمحكمة وأي طرف أجنبي عن العقد وهو ما لا يتماشى مع أحكام إجازة العقد الباطل
التي تقتضي أن تتم الإجازة إلا من طرف الشخص الذي أراد المشرع حمايته وخوله من حق
ممارسة دعوى الإبطال دون سواه، وبالتالي فإن مفهوم التصديق هنا هو إعطاء العقد
صبغة النفاذ وجعله قادرا على ترتيب آثاره القانونية وليس من قبيل إجازة العقد الباطل الذي هو تخلى عن ممارسة دعوى
الإبطال.
ولكن
وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي فإنه لا يمكن التسليم به لأن القول بعدم تنصيص المشرع صلب الفصل 568
م.إ.ع على البطلان لا يعني بالمرة تخليه عن هذا الجزاء لفائدة نظرية العقد الموقوف
على إعتبار أنه لا يمكننا الحديث عن هذه النظرية في إطار تشريعنا، إذ لا يوجد لها
أي أثر، كما لا يوجد لها إطارا قانونيا متكاملا من شأنه أن يدعم هذا الرأي فهي
نظريّة مكرسة في الفقه الإسلامي وقد أخذت بها بعض التشاريع العربية، علاوة على ذلك
فإن عدم تنصيص المشرع على البطلان يفيد في الواقع تخليه عن البطلان المطلق الذي
كرسه في الفصلين 566
و567
ليأخذ بالبطلان النسبي.كذلك
فإن الاعتماد على مصدر الإجازة لتبرير الأخذ بنظرية العقد الموقوف والقول بأن
التصديق يصدر عن المحكمة يمنع من التفكير في البطلان النسبي، فإنه لا يعكس حقيقة
نظام البطلان النسبي، كما أنه يرتكز على نظرة خاطئة له، والذي يحصره فقط في حالات
تعيب إرادة المتعاقد أو نقص أهليته وهي الحالات المتعارف عليها ولا يأخذ بالحالات
الخاصة من العقود القابلة للإبطال والتي أراد من خلالها المشرع تحقيق حماية لبعض
الأشخاص كما في حالة الفصل 568
م.إ.ع.
فبما
أن الولي والوصي والممثل القانوني يتصرفون في أملاك منظورهم ولأنفسهم، فإن المشرع
خشي في هذه الحالة من أن يؤثروا مصلحتهم الخاصة على مصلحة من هم تحت نظرهم فجعل
عقودهم هذه قابلة للإبطال وتبعا لذلك قابلة للإجازة، ولكن بما أنه لا يمكن منح حق
ممارسة الإجازة للولي أو الوصي أو الممثل
القانوني بإعتباره هو الذي مكنه المشرع من حق التصرف في أملاك منظوريه ولا يتصور
أن نمنحه في الآن نفسه حق التصرف بجميع أوجهه وكذلك حق إجازة التصرف الذي أبرمه
لأنه إذا ما مكناه من ذلك فإنه سوف يسيء التصرف في تلك الأملاك ويكسبها لخاصة
نفسه.
وقد
كان من المنطقي أن نعطي بعض الأطراف الأخرى حق مراقبته حتى تتوفر الحماية اللاّزمة
والكافية للمنظور عليهم لذلك إنتزع منه المشرع حق إجازة العقد ليسنده إلى المحكمة
لتمارسه في حق المنظور عليهم بإعتبار وأنهم ليس لهم أهلية التصرف، والمحكمة تتصرف
في هذه الحالة نيابة عن المنظور عليهم وهي نيابة قانونية أقرها المشرع حماية
لمصلحتهم الخاصة.
وبالتالي فإن البطلان النسبي هو الجزاء الأكثر
تلاؤما مع أحكام الفصل 568
وذلك لأن مقصد المشرع من هذا الفصل هو حماية مصلحة خاصة ولا علاقة لها بالنظام
العام
2- الإخلال بمصلحة خاصة لأطراف غير متعاقدة
يتحدد
مفهوم الغير في القانون التونسي، من خلال بسط النصوص الخاصة بالقوة الملزمة للعقد
وخصوصا بالرجوع إلى مادتي الفصلين 240 م.إ.ع و241
م.إ.ع فقد جاء بالفصل 240
م.إ.ع "أن العقد لا يلزم إلا عاقديه ولا ينجر منه ضرورة ولا نفع إلا في الصور
التي نص عليها القانون". ويضيف الفصل241 م.إ.ع
أن "الالتزامات لا تجرى أحكامها على المتعاقدين فقط بل تجرى أيضا على ورثتهم
وعلى من ترتب له حق منهم".
من
هذه النصوص يتضح أن العقد لا يلزم إلا عاقديه أو من يمثلهم تمثيلا صحيحا كالوكيل
أو النائب القانوني أما من عداهم فيعدّ غيرا لا ينصرف إليه إثر العقد فهو لا يضره
و الأصل أنه لا يفيده بإعتباره خارجا عن المجال التعاقدي
في هذا البحث سنقتصر فقط على العقود التي تلحق
الضرر بأحد الأطراف الأجنبية عن العقد والتي يكون جزاءها البطلان، ولكن وإن كانت
هذه الحالات متعددة فإننا سوف نهتم بأهمها وأكثرها جدالا، وهي حالة التصرف في مرض
الموت والتصرف في ملك الغير وأخيرا تصرفات المدين الضارّة بدائنيه.
أ-التصرّف في مرض
الموت
تعرض المشرع التونسي
لمؤسسة مرض الموت صلب مجلة الالتزامات والعقود، دون أن يعطي لذلك تعريفا شأنه في
ذلك شأن التشاريع العربية الأخرى.
وأمام
هذا الفراغ التشريعي كان لا بد من الرجوع إلى مصدر هذه المؤسسة في الفقه الإسلامي،
خاصة وأن الفقهاء قد بلوروا هذه المؤسسة،
وضبطوا شروطها فجاء بالمادة 1595
من
مجلة الأحكام العدلية أن مرض الموت "هو الذي يغلب فيه خوف الموت ويعجز معه المريض
عن رؤية مصالحه خارج داره إن كان من الذكور وعن رؤية مصالحه داخل داره إن كان من
الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة سواء كان صاحب فراش أو لم يكن وإن إمتد
مرضه ومضت عليه سنة وهو على حال واحدة كان في حكم الصحيح وتكون تصرفاته كتصرفات
الصحيح ما لم يشتد مرضه ويتغير حاله لكن لو إشتد مرضه وتغير حاله ومات قبل مضي سنة
يعدّ حاله إعتبارا من تاريخ التغير إلى وقت الوفاة من مرض الموت".
وإستنادا إلى ما جاء
بالفقه الإسلامي، أجمع الفقه الحديث على تعريف مرض الموت بكونه المرض الذي يقعد
صاحبه عن رؤية وقضاء مصالحه العادية، وأن يكون مخيفا ومشعرا بالهلاك و أن ينتهي
فعلا بالموت.
ويستفاد مما تقدم بأن
لمرض الموت أربعة شروط لا بد من توفرها مجتمعة :
قعود المريض عن رؤية
مصالحه، ونعني بذلك عجز المريض عن مباشرة مصالحه
الشخصية التي تختلف باختلاف جنسه كأن يكون ذكرا أو أنثى داخل البيت أو
خارجه وقد أكدت محكمة التعقيب هذا الاتجاه في قرارها الصادر في 2
جانفي 1986
الذي جاء فيه "حيث عرف أغلب فقهاء القانون مرض الموت بكونه المرض الذي يغلب
فيه الموت ويعجز فيه المريض عن مباشرة مصالحه، وينتهي فعل بالموت في بحر مدة وجيزة بين
السنة والثلاثة أشهر....
هذا وقد إستبعدت محكمة
التعقيب المرض المزمن وعدم إعتباره بمثابة مرض الموت وإعتبرت تصرفات المريض صحيحة،
فقد جاء في أحد قراراتها بأن "الشيخوخة
والمرض المزمن وما يترتب عليهما لا يمنعان صاحبهما من التصرف في أملاكه
بالتفويت إذا لم تظهر عليه علامات مخيفة تنذر بالموت..." وفي قرار آخر إعتبرت بأن
"مرض الموت هو المرض المخيف المنذر بالموت القريب لا مجرد العجز عن العمل
بسبب كبر السن أو المرض المزمن كالسل والسرطان... فإنه لا يكون سببا في بطلان
العقود
ويجد هذا الموقف
مصدرا في الفقه الحنفي الذي يستبعد صفة مرض الموت عن الأمراض
المزمنة ولكنه يلحقها
به إذا تعكرت حالة المريض وإشتد مرضه في الفترة الأخيرة من حياته
أن يغلب في المرض خوف
الموت ويشترط في المرض أن يكون خطيرا مهلكا، أي أن يكون من الأمراض التي يغلب فيها
عادة الموت على الشفاء، أما بالنسبة للأمراض التي يغلب فيها الشفاء على الموت
فإنها لا تعتبر من قبيل مرض الموت، فالعبرة في مرض الموت هي الحالة النفسية التي
تلحق بالمريض وتجعله في تصور بقرب المنيّة.
إنتهاء المرض بالموت
: يعتبر الفقه أنه بقطع النظر عن خطورة المرض لا بد أن يتصل بالموت، أي أن يؤدي
فعلا إلى الوفاة وإلا لما اعتبر من قبل مرض الموت حتى ولو أقعد المريض عن قضاء
مصالحه وأصبح عاجزا عن ذلك وكان يغلب فيه الهلاك على الشفاء كما لو أصيب شخص بمرض خطير يؤدي عادة إلى الوفاة ثم
شفي منه، فلا يعد مرض موت ولا تقيد تصرفاته أثناء فترة المرض وتطرح هذه الميزة
مسألة هامة تتعلق بمدة المرض.
لتحديد مدة المرض
اتسم موقف فقه القضاء بالتذبذب والتقلب، خاصة وأن المشرع لم يحدد أجلا معينا لذلك،
فذهبت محكمة التعقيب في قرارها عدد 4408 بأن الفصل 565
م.إ.ع لم يحدد مرض الموت ولا طبيعته بصورة محددة، إلا أنه نظرا لكون هذا الحكم وقع
إستمداده من أحكام الفقه الإسلامي فإنه يجب الرجوع للاستعانة بما قاله رجال الفقه
في هذا الصدد وقد أجمع هؤلاء على أن المقصود به هو المرض المخيف وألحقوا به المرض
المتصل بالموت الواقع بعد العقد المطعون فيه بزمن قصير قدروه بنحو الأشهر الثلاث".
إلا أنها قد تخلت عن
هذا الموقف في قرار آخر جاء فيه "أنه من المتفق عليه فقهاء وقضاء أن المرض
إذا طال بصاحبه وإمتد لأكثر من سنة ولو كان مخوفا يلحق صاحبه بالأصحاء في تصرفاته".
ويبدو أن هذا الموقف
هو الأكثر إقناعا لأنه في بعض الحالات يكون المرض في بدايته غير خطيرا ولكنه بمرور
مدة زمنية قد تفوق الثلاثة أشهر تتدرّج خطورته وتشتدّ ويصبح له تأثير على نفسية
المريض ولكن متى اشتدّ المرض لمدة طويلة كالشلل أو السّل، لم يعد له تأثير على
حالة المريض النفسية كتأثير المرض القصير فالعبرة هي سيطرة خوف الموت على تصرفات
المريض وإحساسه بقرب أجله، لذلك لابد أن ينظر إلى المدة التي يستغرقها هذا
المرض بنسبية وبحسب خطورة الحالة التي
عليها المريض.
ويرجع تقدير مرض
الموت إلى إجتهاد قاضي الموضوع ويستعين في إجتهاده بأهل الخبرة وهم عادة الأطباء
الذين لهم وحدهم القدرة في تقدير حالة المرض ودرجة ميز المريض وإذا تم إثبات مرض الموت فإنه يمكن
التمسك بأحكام الفصول المتصلة ببعض العقود المبرمة خلال مرض الموت والتي تعرض لها
المشرع في بعض المواضع وتعلقت بوصية التي نظم أحكامها الفصل ( 179 م.أ.ش وما بعده ) أو بهبة (206
م.أ.ش) أو بإسقاط دين(354
م.إ.ع
) أو بكفالة (1481
م.إ.ع) أو بيع (565
م.إ.ع)، ولكن نظرا لارتباط كل هذه العقود من حيث نظامها القانوني إذا تمت أثناء
مرض الموت فإنّنا سوف نهتم في بحثنا فقط على البيع باعتباره من أكثر العقود تداولا
وأهمية.
فقد تعرض المشرع
للبيع الواقع في مرض الموت في الفصل 565 م.إ.ع حيث جاء به أن
"بيع المريض في مرض موته يجري عليه حكم الفصل 354 م.إ.ع إذا كان لوارث
وظهر فيه قصد المحاباة كأن يبيع له بأقل من الثمن المتعارف بكثير أو يشتري منه
بأزيد وإذا كان البيع لغير وارث ينزل عليه حكم الفصل 355 ".
هذا وقد طرح التساؤل
في خصوص الجزاء القانوني للبيع الواقع في مرض الموت خصوصا وأن المشرع لم يوضح في
الفصول 354
و355
و365
طبيعة هذا الجزاء، بل أنه إستعمل عبارات مبهمة وغامضة كثيرا ما أثارت جدلا فقهيا وتباينا فقه
قضائي أدّى إلى ظهور إتجاهات نظرية يتمثل أهمها في كونه عقدا موقوفا أو عقدا باطلا.
نظرية العقد
الموقوف
يرى أصحاب هذه
النظرية أن البيع المبرم أثناء مرض الموت هو عقد موقوف ويعتبر هذا الرأي مستمدّا
من المذهب الحنفي والمالكي، فقد جاء بالمادة 393 من مجلة الأحكام
العدلية أنه "إذا باع المريض في مرض موته شيئا من ماله لأحد ورثته صار ذلك
البيع موقوفا على إجازة سائر الورثة". فالعقد في هذه الحالة صحيح لتوفر شروط
إنعقاده وصحّته ولكنه ينقصه عنصر النفاذ حتى يرتب جميع آثاره تجاه الجميع، فنفاذه
وسلامته يتوقفان على إجازة الورثة. هذا وقد أكدت محكمة التعقيب هذا الموقف
في قرار يتيم لها جاء فيه " أن من العقود الموقوفة، البيع في مرض الموت ".
ويبدو أن جانبا من رجال القانون قد أيدها في ذلك معتبرين بأن التصرف الواقع
أثناء مرض الموت يكون موقوفا على إجازة بقية الورثة .إلا
أن القول بكون العقد المبرم أثناء مرض
الموت هو عقد موقوف لا يمكن التسليم به وذلك لاعتبارين إثنين :
أولا : المشرع لم يتعرض صراحة إلى
"عبارة عقد موقوف" للدلالة على هذا الجزاء.
ثانيا : أنه لا توجد في التشريع التونسي
مؤسسة خاصة بالعقد الموقوف خاضعة لنظام
متكامل يمكن الرجوع إليها للقول
بهذا الجزاء لذلك كان لابد من البحث عن جزاء آخر.
*البيع في مرض الموت
عقد باطل
إستقر الفقه وفقه
القضاء على إعتبار البيع في مرض الموت هو عقد باطل،
فقد وردت أغلب قرارات محكمة التعقيب مؤكّدة على أن البيع أثناء مرض الموت هو بيع
باطل ولكن ما هي طبيعة هذا البطلان ؟
يتحدد شكل البطلان
بالنظر إلى أساس مؤسسة البيع في مرض الموت ونظامها القانوني. ففي مرحلة أولى ألحق
فقه القضاء مرض الموت بالنظرية العامة للرضا، معتبرا أن سبب بطلان البيع الواقع في
مرض الموت هو عيب في الرضا، بمعنى أن المريض لم يكن سليم الإرادة بسبب المرض الذي أصابه،
ومن القرارات التي يتجلى فيها هذا الربط ما جاء بالقرار عدد 5623
من أن "عقد البيع الصادر عن الهالك كان فاقدا لأهم شروط تكوين العقد وهو
التصريح بالرضا وهذا الشرط لا يتحقق إلا إذا توفر في الشخص الميز والإدراك، وهما
عنصران غير متوفرين في الهالك".
ويعتبر هذا القرار تجسيما واضحا عن اتجاه فقه القضاء بربط مرض الموت بعيوب الرضا،
فيشترط لقبول دعوى الإبطال تأثر مدارك المريض مؤكدا أن النصوص المتعلقة بمرض الموت
لا تنطبق إلا في حالة اشتداد المرض إلى درجة إضعاف الإرادة إلى حد فقدانها. وكان
نتيجة لذلك أن رتّبت البطلان المطلق بحكم تخلف أحد أركان العقد المنصوص عليها
بالفصل2
م.إ.ع وهو الرضا باعتبار أن المريض مرض الموت هو في حالة عجز عن التصريح برضاه
تصريحا معتبرا و قانونيّا يجعله واعيا ومدركا بما يقوم.
إلا أن هذا الاتجاه
اعتبر غير صحيح ومخالف للقانون، لأنه لا علاقة بين مرض الموت ونظرية الرضا فكلاهما
مستقل عن الآخر، فمؤسسة مرض الموت لا تشترط تأثّر مدارك المريض، ولا علاقة لها
أصلا بفقدان المدارك كما أنها لا ترمي إلى حماية رضا المريض، فهي مؤسسة مستقلة عن
المرض العادي المنصوص عليه بالفصل 59 م.إ.ع. وقد إعتبر الأستاذ محمد الزين في
تعليقه على القرار التعقيببي عدد 11502 أن "المرض
المتّصل بالموت هو غريبا تماما على وجود الرضا من عدمه كما إعتبر أن فقه القضاء
الحالي كما يتجلى من القرار المذكور أعلاه ينتمي إلى وجهة نظر فريدة لا أثر لها في
فقه التشريع الإسلامي.
ومن هنا يختلف أساس
أحكام الفصل 59
م.إ.ع عن أساس الفصل 565
م.إ.ع فالأول يرمي إلى حماية الرضا من كل عيب، فحين يرمي الثاني إلى حماية حقوق
الورثة من تصرفات مورثهم المريض قبل وفاته لأن حق الورثة يتعلق بمكاسبه منذ إصابته
بمرض الموت حتى قبل أن تدركه المنية. ومن ثمة كان الاتجاه الثاني لتأسيس البطلان
على أساس خرق قواعد الميراث وهي قواعد تتعلق بالنظام العام، وقد جاءت نظرية مرض
الموت حماية لقانون الميراث وذلك بجعل بعض القيود على تصرفات المريض التي تمنعه من
إزاحة القواعد الإجبارية للميراث بهدف حماية حقوق الورثة من التحايل لحرمان البعض
وتمييز البعض الآخر، وجعل قواعد الإرث تسري في حق الجميع بالتساوي ولا يفضل البعض
عن البعض الآخر.
إذ يمكن أن تكون تصرفات المريض في هذه المرحلة
يسيطر عليها الخوف والرهبة الناتجة عن ندم عما إقترفه تجاه البعض فيفضل بعضهم على
البعض الآخر، فيفرط ما كان ينبغي المحافظة عليه لفائدة البعض الآخر، وإما أن تكون
ناتجة عن نزعة انتقائية فيحاول حرمان البعض من ورثته من نصيبهم في الإرث كله أو
بعضه
ومما يدعم هذا
الاتجاه ما ذهبت إليه محكمة التعقيب في العديد من القرارات حيث أكدت بأن مرض الموت يمس بضمان حق
الميراث وسلامة توزيعه بين الورثة وحمايته من الإجحاف بحيث يكون جزاء الإخلال بهذه
القواعد البطلان المطلق بالنظر إلى طبيعة هذه القواعد وإتصالها بالنظام العام.
غير أن هذا الموقف قد تعرض هو الآخر إلى
النقد وذلك لاعتبارات عديدة منها :
أولا : أن البطلان المطلق هو جزاء تخلف
أحد أركان العقد أو مخالفته للنظام العام ومساسه بالمصلحة العامة فحين تكون
المصلحة المراد حمايتها في تصرف المريض في مرض الموت مصلحة خاصة بالورثة وحدهم وهي
لا تتصل بجميع الأشخاص إذ لو كانت مصلحتهم عامة لما إقتصر حق الطعن في تصرفات
المريض عليهم وحدهم.
ثانيا : البطلان المطلق يتسلط على تخلف
أحد أركان العقد والحال أن مرض الموت لا يفقد العقد ركنا من أركانه طالما أنه لا
يعجز المريض عن التصريح برضاه.
ثالثا : أن العقد الباطل لا يقبل
الإجازة، في حين أن تصرف المريض في مرض موته هو تصرف قابل للإجازة من طرف الورثة
ليقلبه عقدا صحيحا.
وأمام
فشل الحجج التي قدمها الفقه للقول بالبطلان المطلق لتصرف المريض في مرض موته فإن
البطلان النسبي يبقى الجزاء الأنسب بالنسبة لهذا التصرف على معنى الفصل 354
من مجلة الالتزامات والعقود، بالنظر إلى طبيعة المصلحة المراد حمايتها وهي مصلحة
خاصة بالورثة دون غيرهم من جهة، و قابلية هذا التصرف إلى الإجازة من جهة ثانية.
فالمشرع قد ربط صحة العقد المبرم أثناء مرض
الموت إذا ما تجاوز حدود الثلث في التركة على"مصادقة جميع الورثة"،
ويبقى على تلك الحالة من البطلان الجزئي حتى يجيزه الورثة وأما إذا صرحوا برفض
الإجازة فيما جاوز الثلث متى إستفاد من التصرف غير وارث فإن حالة البطلان تصبح
محققة ويمكن للورثة بصفتهم غيرا أن يمارسوا
دعوى المطالبة بإبطال
هذا التصرف طالما قد
أضرّ بمصالحهم، أما إذا كان التصرف
واقعا لوارث فيشترط أن يكون التصرف بالبيع منطويا على عنصر المحاباة فتتوقف صحّة
هذا البيع على مصادقة جميع الورثة.