1-شروط الاعتراض على الحكم الغيابي
الإجراءات المتبعة قبل الجلسة الاعتراضيــة
الفقـرة
الأولى: التصريح بالإعتــراض
أ-
بالنسبة للمحكوم عليه في حالة سراح :
التصريح بالاعتراض تلقائيا :
يجب على المحكوم عليه الذي بلغه إعلام بصدور حكم غيابي
ضده وكان هذا الحكم مجحفا بحقه أو شابه خطأ، أن يسارع إلى كتابة المحكمة التي
أصدرت هذا الحكم، لتقديم اعتراضه. وقد سلكت بعض القوانين المقارنة نفس المنهج وذلك
بحصول الاعتراض بتصريح لدى كتابة المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي نذكر على سبيل
الذكر قانون الإجراءات المصري في مادته 400 واعتبر هذا الإجراء جوهري وذلك خلافا لما ذهب إليه القانون الفرنسي، إذ يجوز للمحكوم عليه أن يختار الطريقة
التي يرومها في تقرير معارضته حيث لا يوجد شكل معين للاعتراض، فتقبل بتصريح لدى
كتابة المحكمة أو بتصريح أمام العون الذي تولى إعلامه بالحكم، وله كذلك أن يرسل
للنيابة العمومية خطابا مضمون الوصول أو خطابا عاديا يقرر فيه معارضته في الحكم
الغيابي المعلم به وذلك تسهيلا وتخفيفا
على المعترض من عبء تشعب الإجراءات التي قد تحول دون تمكينه من تقرير معارضته.
مقارنة بصرامة المشرع في اشتراطه تقرير الاعتراض لدى
كتابة المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي، فإنه لم يشترط في تقديمه، حصوله من
المحكوم عليه شخصيا، إذ أنه يصح أيضا تقديمه عن طريق "نائبه" ونائب
المحكوم هو محاميه الذي يعتبر نائبه القانوني. وهو ما أكدته محكمة التعقيب في أحد
قراراتها إذ جاء به أن الاعتراض لا يشترط في تقديمه من المتهم شخصيا بل يمكن أن
يكون من نائبه.
وقد جاء بالفقرة السادسة للفصل 175 م.ا.ج على أنه يقدم
الاعتراض إما "بتصريح شفاهي" أو "بتصريح كتابي" يسجل كتابة في
الحين ويكون ذلك في شكل مطبوعات خاصة تضعها كتابة المحكمة على ذمة المعترضين
تسهيلا للاجراءات وعلى المعترض أن يمضي وإذا امتنع عن الإمضاء أو كان غير قادر
عليه أن ينص على ذلك وبعد تثبت كاتب
المحكمة من هوية المعترض والتأكد من مطابقتها لهوية المحكوم عليه، فإنه يسلم له
الاستدعاء للجلسة الاعتراضية بعد إمضائه من قبل المعترض نفسه أو نائبــــه ليكون
بذلك حجة على المعترض بعلمه بتاريخ الجلسة الاعتراضية وهو التفسير الذي اعتمدته
محكمة النقض المصرية في أحد قراراتهاالمتعلقة بإجراءات الفصل 400 م.إ. المصرية المطابق للفصل 175 م.ا.ج أن توقيع
المعارض أو نائبه على تصريح الاعتراض المحدد به تاريخ الجلسة يفيد علم المعارض
بالجلسة التي تحددت للنظر في معارضته وبالتالي يكون هذا الإعلام صحيحا ولا يمكن
للمعارض أن يدحض ما اثبت بالتصريح إلا برميه بالتزوير.
وتجدر الإشارة إلى أنه عند تعيين كاتب المحكمة الجلسة
الاعتراضية والتي يجب أن تنعقد، وفي جميع الأحوال في أجل أقصاه شهر من تاريخ
الاعتراض مع
ضرورة مراعاة آجال التكليف بالحضور الفاصلة بين ميعاد هذه الجلسة ويوم التقرير
بالمعارضة
التصريح بالاعتراض إثر تنفيذ منشور تفتيش :
قد لا يبلغ الإعلام بالحكم الغيابي إلى المحكوم عليه
الذي قد يتعمد الاختفاء أيضا لتجنب تسليمه إياه. ويعطل بذلك سير تنفيذ الحكم
الجزائي الصادر ضده. وأمام هذه الحالة تقوم النيابة العمومية بإرسال منشور تفتيش
قصد القبض على المحكوم عليه وتقديمه إلى كتابة المحكمة التي أصدرت الحكم الغيابي
ويتجه القول أن منشور التفتيش لم يتعرض له المشرع في نص قانوني وإنما جرى عمل
النيابة العمومية على استعماله بتعاون مع إدارة الشرطة العدلية والتي تحتوي على
مصلحة التفتيش العدلي أين خزن مناشير التفتيش الصادرة من مختلف المحاكم.
وقد جرى العمل أن مأمور الضابطة العدلية عند إعلامه
بالحكم الغيابي إما أن يكون ذلك مباشرة للمعني بالأمر إذا وجد أو إلى أحد مساكنيه
أو يعرض الحكم على عمدة المنطقة للتأشير عليه بختمه، تماما مثل ما هو مستوجب في
تبليغ الاستدعاء
ثم يصدر منشور تفتيش يتضمن هوية المعني بالأمر وعنوانه
والحكم الصادر ضده بالعقاب والمحكمة التي أصدرته وتاريخ الحكم ووصفه. فيبقى هذا
المنشور ساريا إلى أن يقع إلقاء القبض على المحكوم عليه. وفي هذه الحالة يقع
الاحتفاظ به مباشرة ثم يقدم إلى المحكمة مصدر
الحكم لتسجيل اعتراضه. فيكون الاحتفاظ غير مؤسس قانونا لأن المشرع نظم الاحتفاظ
وخوله في صورتين لمأموري الضابطة العدلية ولذلك إما في صورة البحث الابتدائي
(الفصل 13 مكرر م.ا.ج) أو في صورة البحث بإنابة (الفصل 57 فقرة ثانية م.ا.ج) وهي
غير الحالة المتعلقة بالاحتفاظ الذي يجريه مأمور الضابطة العدلية في صورة إيقاف
المفتش عنه. وفي ذلك خرق واضح للاجراءات وهتك لضمانات المتهم إذ المفتش عنه بمجرد تقديمه إلى المحكمة وتسجيل اعتراضه يطلق سراحه أما إذا كان
الحكم الغيابي قاضيا بالنفاذ العاجل فإن المحكوم عليه غيابيا يودع مباشرة بالسجن
ويسجل اعتراضه بواسطة كبير حراس السجن.
ب-
بالنسبة للمحكوم عليه الموقوف
مبدئيا وبالنظر إلى ما جاءت به الفقرة الثالثة من الفصل
175 م.ا.ج فإن المعترض يتقدم لكتابة المحكمة من تلقاء نفسه أو يقع تقديمه إليها
إثر تنفيذ منشور تفتيش صادر ضده، ويصرح باعتراضه على الحكم الغيابي، لكن يوجد
استثناء لهذه القاعدة وهو ما تعرضت إليه الفقرة الخامسة من نفــــس الفصل (175
م.ا.ج) والذي جاء بها أنه إذا كان المعترض موقوفا فإن الاعتراض يتلقاه كبير حراس
السجن ويحيله بدون تأخير على كتابة المحكمة وهو ما يجعل كبير حراس
السجن في مقام كاتب المحكمة وذلك تسهيلا للإجراءات وخشية مما قد ينجر عن تنقل
الموقوفين للقيام بإجراءات الاعتراض كالفرار مثلا
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع يجيز للموقوفين التصريح
باعتراضاتهم لكبير حراس السجن وذلك سواء كانوا موجودين بمؤسسة سجنية تابعة لدائرة
المحكمة التي أصدرت الحكم أو كانوا خارجين عن تراب تلك المحكمة. وبما أن المشرع قد
أجاز هذه الإمكانية للمحكوم عليهم الموقوفين كان بالإمكان أن ينسج على نفس المنوال
ويسمح للمعترض أن لا يصرح باعتراضه لدى كتابة محكمة غير التي أصدرت الحكم الغيابي
ضده ككتابة المحكمة التي أعلم بدائرتها وذلك تسهيلا للإجراءات وتجنبا لتعطيل
القضاء. هذا ولأنه يكتفي المعترض بالتصريح باعتراضه بل يجب أن يحترم خلال تلك
الآجال القانونية التي سنها المشرع له.
الفقــرة الثانيـة: التقيد بآجال الاعتـراض
أ-
الأجـل العـادي:
اقتضى الفصل 175 م.ا.ج. فقرة ثالثة أن
الاعتراض على الحكم الغيابي يقدم لكتابة المحكمة التي أصدرته من طرف المعترض نفسه
أو نائبه في 10 أيام الموالية لتاريخ الإعلام. وهي حالة الإعلام القانوني بالحكم
الجزائي غير أن المشرع أخذ أيضا بنظرية العلم الواقعي بالحكم وهو ما يستشف من
أحكام الفصل 176 م.ا.ج إذ ثبت من أعمال التنفيذ أن المتهم بلغ له العلم بالحكم فإن
أجل 10 أيام يبتدئ في السريان من تاريخ ثبوت علم المحكوم عليه بالحكم, ويرفع الأجل
إلى 30 يوما إذا كان المعترض مقيما بالخارج
ولم يخرج المشرع عن نظام حساب الآجال
العادي الوارد بمجلة المرافعات المدنية والتجارية وجعل هذا الأجل مفتوحا. ويبدأ
الحساب من تاريخ اليوم الموالي للإعلام وبذلك يعتبر يوم الإعلام خارجا عن حساب أجل
الاعتراض وتطبيقا للقواعد العامة فإن كان آخر يوم هو عيد أو عطلة يؤجل اليوم
الأخير الى اليوم الموالي .وفرق المشرع بين أجلين في الاعتراض الأول إذا كان
المعترض مقيما داخل تراب الجمهورية أيا كان محل إقامته وآيا كانت المحكمة مصدرة
الحكم الغيابي واعتبر أن أجل 10 أيام يكفي في جميع الصور الواقعية طالما أن
المعترض مقيما بالبلاد التونسية وهو موقف يتصف بالمنطقية إلا أنه بالنسبة للأجل
الثاني وهو أجل الشهر بالنسبة لمن كان يقيم خارج تراب الجمهورية من تاريخ إعلامه
بالحكم يثير بعض الإشكاليات من حيث التطبيق خاصة وأن جانبا من المعنيين بالاعتراض
هم من مواطنينا المقيمين بالخارج وتختلف إمكانية حضورهم في هذا الأجل وإمكانية
الترخيص لهم بالحضور بالجلسة الاعتراضية في هذا الأجل الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تغييب المعترضين من هذا
الصنف عن جلسة الاعتراض بما يؤدي إلى رفض الاعتراض شكلا.
وكان أجدر بالمشرع أن يكون أكثر تفهما لهذه
الشريحة من المجتمع بمراعاة وضعياتهم الخاصة وتمكينهم من أجل متسع.
وإن كان الإعلام يحدد نقطة سريان الأجل
بالنسبة للاعتراض فهو إجراء جوهري يترتب على عدم القيام به ترك باب الاعتراض
مفتوحا أمام من يروم طرقه إلى حين انقضاء آجال سقوط العقاب لذلك فإن المشرع أوكل واجب الإعلام إلى كاتب المحكمة التي أصدرت الحكم لكننا نلاحظ بأن جريان العمل يخالف ما استوجبه المشرع. فالحال أن مهمة كاتب
المحكمة تقتصر فقط على تحرير المكتوب المتضمن لمحضر الإعلام بالحكم ثم تتلوى
النيابة العمومية توجيه هذا المحضر إلى مأموري الضابطة العدلية أو أعوان الشرطة
العدلية وهم قوات الأمن الداخلي ليتولوا تنفيذ محضر الإعلام إلى المعني به إذ أن
كاتب المحكمة لا يمكن له من حيث الفعل والواقع التحول إلى مقر المطلوب إعلامه
لتبليغه الإعلام بالحكم الغيابي.
هنا تثار
مسألة إجرائية ترتبط بمدى صحة الإعلام الذي يقع تنفيذه على نحو ما ذكر لأن الإعلام
بالحكم هو اختصاص حصري لكاتب المحكمة التي أصدرته وهذه الإشكالية تدعم الاقتراح
السابق المتعلق بإيجاد هيئة خاصة تتولى تبليغ الاستدعاءات والإعلام بالأحكام إذ
أنه يستحيل على كاتب المحكمة أن يتولى الإعلام بالحكم وقد وقع المشرع في ذلك خلط
مع كاتب حاكم التحقيق الذي يتولى الإعلام بقرارات قاضي التحقيق سواء للمتهمين أو
غيرهم بناء على استدعائهم إلى مكتب التحقيق وهو ما لا يتوفر في كاتب المحكمة.
ولا إشكال يثار في حساب أجل الاعتراض إذا
تم الإعلام بالحكم إلى المعني بالأمر شخصيا إلا أن الإشكال يثار فيما يتعلق
بالإعلام المبلغ لغير المحكوم عليه وهذا ما جعل المشرع يحدد أجلا استثنائيا
للاعتراض.
ب- الأجل
الاستثنائي للاعتــراض:
اقتضى الفصل 176 م.ا.ج أنه إذا لم يبلغ
الإعلام بالحكم للشخص نفسه أو لم يتبين من أعمال تنفيذ الحكم أن المظنون فيه حصل
له العلم به، يمكن قبول الاعتراض إلى انقضاء آجال سقوط العقاب. ومقتضى ذلك أن
المشرع الحق في حكم الإعلام الشخصي حصول العلم للمظنون فيه بالحكم أما إذا لم يحصل
الإعلام الشخصي حصول العلم للمظنون فيه بالحكم أما إذا لم يحصل الإعلام أو العلم
بالحكم الغيابي فإن أجل الاعتراض يبقى مفتوحا إلى انقضاء سقوط العقاب ومن المعلوم
أن العقاب يسقط في المخالفة بمضي عامين إثنين وفي الجنحة بمضي خمسة أعوام، وفي
الجناية بمضي عشرين عاما كاملة وهو ما أكدت عليه محكمة التعقيب في قرارها عدد8195 المؤرخ في 28 أفريل 2007 والذي
ورد بأحد حيثياته "وحيث أن الحكم المعترض عليه ولئن صدر في 06-12-2006 في حين
أن المتهم المعقب ضده بالحكم المعترض عليه ولا وجود بالأوراق وما يفيد ذلك. ولا
يمكن الحديث بالتالي عن سقوط العقاب
بمرور الزمن
في قضية الحال ذلك أن سريان أجل السقوط لا يبتدئ إلا من تاريخ الإعلام بالحكم
الغيابي مثلما أوجبه الفصل 349 م.ا.ع".
يبدو أن المشرع على خلاف ما اعتبره
بالفصل 175 فقرة ثالثة ورابعة م.ا.ج أن بلوغ الإعلام بالحكم الغيابي لشخص المحكوم
عليه يمثل قرينة قاطعة على علمه بذلك الحكم فإنه اعتبر بالفصل 176 أن عدم بلوغ
الإعلام بالحكم الغيابي لشخص المحكوم عليه لا يمثل سوى قرينة بسيطة على علمه بذلك
الحكم يمكن وبالتالي دحضها بإثبات العكس فإن المحكوم عليه غيابيا يتمتع حينئذ بأجل
استثنائي للطعن بالاعتراض الذي يمتد إلى انقضاء آجال سقوط العقاب مما من شأنه أن
يدعم حقه في الحضور والمواجهة من جديد وذلك شريطة أن يقع الإثبات أن الإعلام
بالحكم الغيابي لم يبلغه شخصيا أو تبين علمه بالحكم عن طريق أعمال تنفيذ الحكم
نفسه. لكن ما المقصود بأعمال التنفيذ؟
إجابة عن هذا السؤال اعتبر فقه القضاء أن
بلوغ الإعلام بالحكم إلى مقر المحكوم عليه لا يعتبر عملا من أعمال التنفيذ وأن عدم
استخلاص مبلغ الخطية المحكوم به قرينة على أن المتهم لم يحصل له العلم بالحكم وبقراءة عكسية لما ذكرته محكمة التعقيب فإن استخلاص مبلغ الخطية المحكوم به يمكن
أن يعد عملا من أعمال التنفيذ، خلافا لما اعتبرته محكمة الاستئناف بباريس من أن دفع مبلغ الخطية لا يفيد علم المحكوم عليه
ولا يفقده حقه في الطعن بالتالي فإن القيام بأعمال تنفيذ الحكم تنفيذ حتما حصول العلم اليقيني المعترض بما
تضمنه الحكم فلا يجوز بذلك تمتيعه بأجل استثنائي وذلك بقبول اعتراضه إلى انقضاء
آجال سقوط العقاب.
ويقترح القاضي محمد الصالح العياري تعديل
الفصل 176 م.ا.ج بأجل أقل طولا: "تحديد أجل قبول الاعتراض بشهرين عوض قبوله
إلى انقضاء سقوط العقاب إذا لم يبلغ الإعلام بالحكم للشخص نفسه... إذ يعتبر أن قبول الطعن بالاعتراض إلى انقضاء آجال سقوط العقاب يتسبب في ضياع حقوق
المتضررين من الجرائم و بقائهم دون تعويض
نتيجة تحصن المتسبب فيها بالفرار أو الالتجاء إلى التهرب والاختفاء لكي يتجنب
تسليم الإعلام له شخصيا ولا أدل على ذلك الزخم الهائل من قضايا الحوادث المرورية
مرتكبيها من السياح أو التونسيين المقيمون بالخارج، فيتعذر عند ذلك تنفيذ الفرع
المدني من الحكم الجزائي المتعلق بالتنفيذ على مكاسب المحكوم عليهم وذلك بعلة أن
الحكم غير بات باعتبار قابليته للطعن بالاعتراض من خلال الأجل الاستثنائي.
أما القاضي البشير زهرة فيرى وجوب التفريق بين أجلين للاعتراض من جهة أجل طويل حدده الفصل 176 يخص المحكوم
عليه جزائيا ومن جهة أخرى أجل قصير ينطبق على الجانب المدني
من الحكم
الغيابي متبنيا بذلك النظرية المعمول بها في فرنسا بالفصل 492 م.ا.ج، فيصبح الحكم
بذلك في الصورة الأخيرة خاضعا للإجراءات المدنية. ويبلغ بذلك الإعلام به إلى مقر
المحكوم عليه.
معللا ذلك بتكريس المشرع التونسي لمبدأ
المواجهة في المادة الجزائية من خلال تمكين المتهم من الدفاع عن نفسه ودحض الأدلة
التي تدينه في جميع الصور إذ أنه حتى في صورة غيابه نتيجة عدم تبليغه شخصيا
الاستدعاء يمكنه تبليغ صوته إلى المحكمة من خلال استعمال حقه بالاعتراض على الحكم
الغيابي الصادر ضده إلى أجل انتهاء سقوط العقوبة إذا لم يعلم به شخصيا. ولا شك في
أن هذا الرأي يقدم حلا
وسطا بما أنه
يحافظ على حقوق المتضرر وحقوق المتهم الشرعية في الآن ذاته وفي نفس هذا الاتجاه يمكننا التعريج إلى ما اعتمده المشرع البلجيكي في معالجة
إشكال آجال قبول الطعن بالاعتراض في الحكم الغيابي. إذ اقتضى الفصل 187 من القانون
البلجيكي للتحقيقات الجنائية أن الاعتراض على الأحكام الغيابية يقدم في الخمسة عشر
يوما الموالية لتاريخ الإعلام بالحكم غير أنه إذا لم يثبت الإعلام شخصيا إلى
المحكوم عليه، يمكن قبول اعتراضه على المقتضيات الجزائية للحكم في خلال الخمسة عشر
يوما الموالية لتاريخ علمه بوقوع الإعلام.
إذا لم يثبت حصول العلم له بذلك فإن
اعتراضه على الفرع الجزائي من الحكم يظل مقبولا إلى حين سقوط العقوبة بموجب مرور
الزمن أما فيما يتعلق بمقتضيات الحكم الغيابي الخاصة بالدعوى المدنية فإنه بإمكان
المحكوم عليه الاعتراض عليها إلى حين تنفيذها. وهو ما يمثل أيضا حلال وجيها أمام
إهدار حقوق المجني عليه المشروعة في الحصول على تعويض وذلك نظرا لتعطيل تنفيذ
الفرع المدني من حكم غيابي صادر لصالحه في حين أن المحكوم عليه يتعمد الاختفاء
استنادا على قابلية الحكم المذكور عليه يتعمد الاختفاء استنادا على قابلية الحكم
المذكور للاعتراض في خلال الأجل الاستثنائي.
هذا فيما يتعلق بأهم الإجراءات التي يجب
على المتهم المعترض اتباعها قبل الجلسة الاعتراضية لكن هل أن الأمر يقف عند هذا
الحد للقول بقبول اعتراضه أم توجد إجراءات تحديدا يوم الجلسة الاعتراضية؟
المبحـث الثاني: إجراءات الجلسة الاعتراضيــة
الفقــرة الأولـى: الحضور الشخصي للمعترض
أ-
مبدأ وجوبية الحضور الشخصي للمعترض
اقتضى الفصل 183 م.ا.ج أنه إذا لم يحضر المعترض يحكم
برفض اعتراضه بدون تأمل في الأصل ولا يتسنى له الطعن في هذا الحكم إلا بطريق
الاستئناف. ويتضح أن أحكام هذا النص جاءت قاطعة وصارمة فإذا لم يحضر المعترض فإنه
يحكم برفض اعتراضه شكلا. وعليه فإن اشتراط حضور المعترض بالجلسة الاعتراضية وبهذه
الصرامة يتماشى وتمسك المشرع التونسي بالنظرية الذاتية للدفاع والغاية من الالتجاء
إلى الطعن بالاعتراض فكما سبق وبينا فإن المشرع خول للمحكوم عليه غيابيا هذه
الوسيلة للطعن حتى يتمكن من تبليغ صوته للعدالة عملا بمبدأ الحضورية والمواجهة
الإجرائية.
لذلك فإن عدم حضور المعترض بالجلسة الاعتراضية من شأنه
أن يفقد الاعتراض غايته زيادة على ما قد ينجر عنه من تعطيل لسير القضاء فما
الفائدة من منح المشرع المحكوم عليه غيابيا وسيلة طعن يتدارك بها ما فاته بالحضور
لدى نفس المحكمة التي أصدرت ضده الحكم ليقدم ما له من وسائل دفاع قد تبرؤ ساحته,
في حين أنه يعلم مسبقا أنه لن يحضر هذه الجلسة.
وقد أقرت محكمة التعقيب ذلك لما أكدت بأحد قراراتها "أن الاعتراض على الأحكام الغيابية في مادة القانون الجنائي حق خوله المشرع
للمحكوم عليه غيابيا ولم يرتب عليه جزاء إلا في صـــورة الفصــل 183 م.ا.ج عند عدم
حضوره بجلسة الاعتراض فإنها تقتصر على التثبت من حضور أو عدم حضور المعترض بنفسه
للجلسة الاعتراضية فإذا حضر وكان اعتراضه
في الأجل فإنها تقبله من الناحية الشكلية وذلك بصفة آلية .
بالتالي فإن المحكمة تقتصر على تقدير العنصر المادي المتمثل في غياب المعترض
لتسجله ثم تصرح برفض الاعتراض شكلا بدون تأمل في الأصل.
ولا يخفي ما قد يطرحه تغييب المعترض عن الجلسة
الاعتراضية من عديد من الفرضيات والتساؤلات.
فماذا لو حضر عن المعترض – بجلسة الحكم المعترض عليه –
محاميه الذي سبق وقام بإجراءات الاعتراض نيابة عنه وذلك طبعا حسب ما خوله له
المشرع؟
ومن خلال ما يجري العمل به بالمحاكم فإنه إذا قام محامي
المحكوم عليه بالاعتراض على الحكم الغيابي يتسلم نيابة على منوبه – من كاتب
المحكمة الذي تلقى منه مطلب تسجيل الاعتراض – استدعاء للحضور بالجلسة الاعتراضية
متضمنا تاريخ الجلسة المعينة في خلال شهر من تاريخ الاعتراض وعدد القضية وبيان
التهمة المنسوبة. وإذا لا يحضر المتهم المعترض شخصيا بالجلسة يحكم برفض الاعتراض
شكلا حتى لو حضر عنه محاميه ومرد ذلك أن المشرع عندما نص في الفصل 182 م.ا.ج
"إن حضر المعترض وكان اعتراضه مقبولا..." لم يتعرض لذكر
"نائبه" كما سبق وبينما في الفصل 175 م.ا.ج من كون "الاعتراض على
الحكم الغيابي يقدمه المتهم بنفسه لكتابة المحكمة التي أصدرته المعترض أو
نائبه" وبذلك فإن المشرع قصد التفريق بين المعترض ومحاميه ولم يجعل منها شيئا
واحدا. وهو ما يفسر موقف محكمة التعقيب المتشدد في وجوب الحضور الشخصي للمعترض
(المتهم) بالجلسة الاعتراضية. ولو كان الحكم الغيابي المعترض عليه صادر في مخالفة
أو جنحة مستوجبة لعقاب مالي. فقد أقرت أنه في "مادة الاعتراض على الحكم الغيابي ولو كان في مخالفة أو في جنحة مالية
وقام به المحامي لا يغني فيه حضور المحامي عن حضور المعترض شخصيا بجلسة الحكم إذ
غيابه يوجب الرفض شكلا (الفصل 183 م.ا.ج). ولا مطعن من ذلك في الحكم". ومن
خلال ما ورد في حيثيات هذا القرار فإن محكمة التعقيب بينــــــــــت أن أحكام الفصل
141 م.ا.ج الذي بني عليه المحامي الطاعن مطلبه لا يوجب حضور المظنون فيه شخصيا إلا
إذا كان تتبعه من أجل جناية أو جنحة تستوجبان العقاب بالسجن عقابا ماليا. لكن هذا
"الحضور من أجل التتبع أما بعد النظر في التهمة المنسوبة إليه وصدور الحكم
عليه فإن الأمر يصبح خاضعا لإجراءات معينة ورد بيانها بالقسم الخامس من الإجراءات
الجزائية تحت عنوان في الحكم الغيابي والاعتراض عليه وحيث أن تلك الإجراءات لم
تفرق مثلما الفصل 141 بين كون الجريمة تستوجب عقابا ماليا فحسب أو تستوجب العقاب
بالخطية والسجن".
وقد أضافت محكمة التعقيب تأييدا لقرارها
أن أثناء الجلسة الاعتراضية يقتضي دور المحكمة أولا البت في موضوع الاعتراض، ومتى رأت أن الاعتراض
مقبولا فإنها تنظر في الأصل من جديد. هذا وبما أن الفصل 183 م.ا.ج جاء قاطعا ولم
يترك مجالا للتأويل فإنه مهما كانت أسباب غياب المعترض (المتهم) فإن المحكمة تحكم
برفض اعتراضه شكلا ولا يمكن بالتالي أن ينوب عنه محاميه للحضور بالجلسة الاعتراضية
لكن أجاز المشرع للمحامي في المقابل وتحديدا بالفقرة الثالثة من الفصل 175، تسجيل
مطلب الاعتراض نيابة عن منوبه. لكن هل يمكن تسلم الاستدعاء للجلسة الاعتراضية من
كاتب المحكمة الذي تلقى اعتراضه؟
لقد أثار هذا الإجراء العديد من
الإشكاليات التي قد تؤثر سلبا على حقوق المعترض وخاصة على مآل مطلب طعنه بالاعتراض
عند تغييبه عن جلسة الحكم المعترض عليه.
إذ أنه بالرجوع إلى مقتضيات الفصل 139
م.ا.ج والذي يحدد طريقة تبليغ الاستدعاء لحضور المتهم أمام المحكمة المتعهدة
بالقضية " يسلم الاستدعاء إلى المستدعي نفسه أو وكيله أو خادمه أو لمن يكون
ساكنا معه بشرط أن يكون مميزا ".
لكن كلمة وكيل mandataire لا تعني النائب représentant المنصوص عليها بالفصل 175 والتي تفيد المحامي
(بوصفه نائب للمحكوم عليه). وعليه فإن تسليم المحامي للاستدعاء نيابة عن المعترض
لا يستقيم قانونا ويتنافى ومصلحة المتهم الشرعية بالتالي فهو إجراء باطل
وقد سلك فقه القضاء هذا الاتجاه وأوّل ما
جاء بالفصل 175 فقرة سابقة "... وإعلام المعترض بتاريخها" تأويلا ضيقا
ليفيد إعلام المتهم شخصيا، فقد أقرت أن "اعتراض المحامي في حق منوبه المحكوم عليه على الحكم الغيابي لا يكفي فيه
تسليم الاستدعاء ولا يوجد بأوراق القضية ما يفيده على معنى الفصل 175 م.ا.ج وبذلك
فالحكم برفض اعتراضه شكلا فيه تحريف للواقع وخرق للقانون كلاهما يوجب نقضه.
كما أقرت أن "تسليم الاستدعاء لمحامي المعتـــرض على الحكـــم الغيابـــي لم يقتضيـــه
الفصـــل 175 م.ا.ج".
من خلال ما ورد بهذين القرارين والعديد
من القرارات الأخرى نلاحظ هذا الاتجاه الذي اعتمدته محكمة التعقيب يتماشى وغاية
سلك المتهم طريق الطعن بالاعتراض المتمثلة أساسا في تحقيق مبدأ الحضورية من خلال
تبليغ الاستدعاء إلى المعترض شخصيا.
لكنه ومن الناحية العملية فإنه في صورة
عدم حضور المعترض بجلسة الحكم المعترض عليه بعد أن قام محاميه بتسجيل اعتراضه
وتسلم الاستدعاء نيابة عنه. فإن المحكمة تؤخر القضية لإعادة استدعاء المتهم شخصيا
وهو ما يتسبب في تعطيل مجرى سير القضية وتراكم العديد من القضايا المعترض عليها من
قبل المحامين دون أن تصدر فيها أحكاما في الأصل. وهو ما دفع بمحكمة التعقيب إلى
اتخاذ اتجاه ثان مغاير.
وقد أكدت ذلك محكمة التعقيب بقرار مبدئي "حيث أن تمكين المحكوم عليه من الاعتراض بواسطة نائبه يقتضي تمكين النائب من
إتمام كل الإجراءات الضرورية لرفع الطعن وهي تقديم مطلب الاعتراض لكتابة المحكمة
وتلقي الإعلام بتاريخ الجلسة وإبلاغ الخصوم بموعدها. أما إعلامه لموكله المحكوم
عليه فذلك الهدف الأساسي من وكالته التي لا غاية لها غير تمكين موكله من الحضور
بالجلسة لإعداد النظر في قضيته وبدون هذا الإعلام تصبح الوكالة على الاعتراض لا
مبرر لها" على ضوء ما جاءت به هذه الحيثية نلاحظ أن في إقرار محكمة التعقيب
بدوائرها على حق المحامي تسلم الاستدعاء بجلسة الحكم المعترض عليه واعتباره تسلما
قانونيا، تعارض مع المبادئ الإجرائية فتبليغ الاستدعاء في غير الصور المنصوص عليها
قانونا يعتبر تبليغ لا يتماشى والأحكام المنصوص عليها بمجلة الإجراءات
الجزائية ويتنافى ومصلحة المتهم الشرعية لكنه وأمام العدد المتزايد من القضايا المعترض
عليها من قبل المحامي بالنسبة للمحكوم عليهم غيابيا .فكان إقرار مبدأ الإعلام القانوني بدل الإعلام
الشخصي تحتمه
صعوبة
التبليغ الشخصي أحيانا وتعذره أحيانا". على حد تعبير محكمة التعقيب بدوائرها
المجتمعية بنفس القرار المذكور.
وقد استقر فقه قضاء محكمة التعقيب على
هذا المنهج وأقرت في نفس الاتجاه وأكد على أن "الفصل 175 م.ا.ج أوجب على المحكمة إعلام المعترض
بتاريخ الجلسة ولم يوجب أن يكون الإعلام لشخص المتهم ضرورة أن المقصود بالمعترض هو
من قدم مطلب الاعتراض وقد يكون المتهم نفسه أو نائبه وبالتالي فإن مطالبة كاتب
المحكمة إبلاغ الإعلام لشخص المحكوم عليه الذي لم يحضر لديه يتنافى وواجب الإعلام
بموعد الجلسة ومع مقصد المشرع من إجازة الاعتراض بواسطة نائب المحكوم عليه.
هذا الاتجاه لئن حد من تراكم القضايا
نظريا لكنه عمليا فإنه أثار عدة صعوبات أضرت بالمحكوم عليهم غيابيا ممن رفض
اعتراضهم شكلا لتخلفهم عن الجلسة الاعتراضية المعينة لهم نتيجة عدم علمهم بتاريخها
بما أن المحامي قد تسلم نيابة عنهم الاستدعاء ولم يثبت أنه تولى إعلامهم بذلك.
وبالنظر إلى جملة هذه الصعوبات التطبيقية
فقد اقترح بعضهم إتمام قرار محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة المشار إليها سابقا فيما يتعلق بموضوع
تسليم الاستدعاء إلى المحامي نائب المعترض باشتراط أن يكون بيد هذا الأخير توكيلا
خاص لذلك.
لكن هذا الرأي مردود عليه حسب رأينا، ذلك
أن الاستدعاء إجراء يهم النظام العام وإجراء يرتبط بشخص المعترض يتوقف عليه قبول
الاعتراض من عدمه ولا تجوز فيه الوكالة الخاصة وأن فقه القضاء استقر على أن
الوكالة بمفهوم قيام الوكيل بالعمل نيابة عن موكله لا تجوز في المسائل الجزائية
إذا كان الموكل متهما. مثل الاستدعاء والاستنطاق والحضور والمكافحة التي ترتب آثار
قانونية تمس أو تخدم مصلحة المتهم. فوكالة الدفاع تقتضي الترافع وتقديم التقارير
ومناقشة المسائل القانونية التي في الغالب تغيب عن الشخص المحكوم عليه أما تسلمه
الاستدعاء فهو إجراء شخصي لا تجوز الوكالة بشأنه.
ب-
استحالة الحضور بموجب القوة القاهرة:
إن أحكام الفصل 183 م.ا.ج وردت قاطعة وغير قابلة للتأويل
وعليه إذا لم يحضر المعترض يحكم برفض اعتراضه شكلا بدون تأمل في الأصل وذلك مهما
تعددت الأسباب التي دفعته للغياب وفي هذه الحالة لا يتسنى له الطعن في ذلك الحكم
إلا بطريق الاستئناف ومعنى ذلك أنه لا يمكنه أن يسجل
اعتراضه من جديد على حكم صدر ضده برفض الاعتراض إذ لا
تجوز المعارضة على المعارضة Opposition sur opposition ne vaut وهو ما يمس في جانب كبير من حقوق دفاع المتهم المعترض ومن غاية
الاعتراض أساسا خاصة إذا ثبت مثلا أن المتهم تغيب لعذر قهري فإنه يكون قد فقد درجة
من درجات التقاضي برفض اعتراضه شكلا.
إن قبول المحكمة للأعذار المعقولة والمقبولة أمر لا يضر
بالعدالة بل أنه يرسخ من كرامتها لأن مهمتها هي إحقاق الحق وليس تصيد الفرص
للإيقاع بالناس لوجود ظروف خاصة تخرج عن ارادتهم. وإن رفض الأعذار بصورة مطلقة
يحرم المتهم من الدفاع عن نفسه،لذلك يجب
النظر بعين الاعتبار لوجود القوة القاهرة التي تمنعه من الحضور والتي حالت بينه
وبين المثول أمام المحكمة، ولا يجوز أن يقع على عاتقه تحمل وزر هذه القوة القاهرة
لمؤسسة القوة
القاهرة أهمية بالغة تبرز على العديد من المستويات إذ تمثل القوة القاهرة والحادث
الفجئي وسيلة قانونية هامة تسمح للمدين في التزام عقدي أصبح مستحيل التنفيذ طبقا
لها التحلل من هذا الالتزام تعتبر القوة القاهرة والحادث الفجئي مسوغا قانونيا
يؤدي إلى انهيار القوة الملزمة للعقد متى توافرت شروطها.
وقد تعرض المشرع في مجلة الالتزامات والعقود للقوة القاهرة والحادث الفجائي وخصص لها بابا اعتنى بنظامهما القانوني.
ولكن نظرا إلى أن مؤسسة القوة القاهرة لا تقتصر على
القانون المدني وحده وإنما تتعداه إلى كافة فروع القانون فإن الأحكام الواردة في
مجلة الالتزامات والعقود تعد بمثابة القاعدة العامة.
ويلاحظ أن فيما يتعلق بمادة الإجراءات الجزائية غياب أي
تنظيم تشريعي للقوة القاهرة التي لم يتعرض لها المشرع في مجلة الإجراءات الجزائية
إلا في الفصلين 213 بالنسبة لأجل الاستئناف و262 بالنسبة لأجل التعقيب ومع ذلك فإن
فقه القضاء ساهم بشكل واضح في تكريس مفهوم القوة القاهرة في إجراءات الطعون
الجزائية وخاصة الطعن بالاعتراض فقواعد العدل والإنصاف وحق المتهم في الحصول على
محاكمة عادلة تتوفر له فيها جميع الضمانات لرد التهمة عن نفسه كما سبق بيانه تبرر
الأخذ بالقوة القاهرة في مادة الاعتراض على الأحكام الغيابية
ومن بين حالات القوة القاهرة التي قبلتها محكمة التعقيب
واعتبرتها من المبررات التي تخرق قاعدة رفض اعتراض المعترض الذي لم يحضر شكلا وفاة
أحد أقارب المعترض، إذ أقرت محكمة التعقيب أن "عدم حضور المعترض لسبب قهري
بجلسة الحكم المنتقد لم يكن بإرادته بل كان بسبب أمر طارئ وهو وفاة والده حسب
مضمون وفاته المضاف للملف مما يجعل رفض اعتراضه شكلا في غير طريقه".
وقد دأب عمل المحاكم على اعتبار الشهادة الطبية دليل
يمكن الأخذ به لإثبات القوة القاهرة التي تحول دون حضور المعترض بالجلسة وهو ما
سبق أن أكدته محكمة التعقيب حين اعتبرت "الكشف الطبي المقدم من نائب الطاعن بجلسة المحاكمة يحتوي على عذر
شرعي يبرر طلب التأخير وإن عدم استجابة المحكمة لذلك يمثل خرقا لحقوق الدفاع لنيله
من مصلحة المتهم في الحضور شخصيا حتى يتمكن من يتولى الدفاع إبداء رأيه في التهمة
المنسوبة إليه".
ويلاحظ أن محكمة التعقيب وضعت شرطا لاعتبار المرض من
قبيل القوة القاهرة إذ يجب أن يكون المرض على درجة من الجسامة بحيث تقعد الإنسان وتحول دون إمكانية حضوره بالجلسة وقد أكدت
محكمة التعقيب أن "... الشهادة الطبية لا تفيد تنقل الطبيب الفاحص إلى سكنى الطاعن وفحصه
وهو في الفراش وهذا من شأنه أن، يستفاد منه عدم قدرته على مغادرة محله وبالتالي
عدم إمكانية حضوره بالجلسة وبناء على ذلك فإن المطعن غير وجيه واتجه رده",
وإضافة إلى ذلك يمكن أن يتغيب المعترض لسبب من الأسباب
الخارجة عن إرادته ومثال ذلك تخلف المتهم المعترض على حكم غيابي صادر ضده عن
الحضور لجلسة الحكم المعترض لأن الاستدعاء الذي سلمته له كتابة المحكمة كان ينص
على أن الجلسة الاعتراضية ستنعقد بالقاعة عدد3 في حين أنها انعقدت بالقاعة عدد2 أن
يضمن خطأ الكاتب بالاستدعاء تاريخا مغلوطا للجلسة يعتبر رفض الاعتراض شكلا في حقه
هاضما لحقوقه المشروعة لعدم تمكنه من الدفاع عن نفسه بسبب خارج عن إرادته
إذ لا يمكن أن يحتمل المحكوم عليه سهو كاتب المحكمة عن
إدراج القضية الاعتراضية في الجلسة المعينة لها
وفي هذا المعنى أيضا قررت محكمة التعقيب رفض اعتراض
المتهم شكلا لعدم حضوره لجلسة الحكم المعترض عليه والحال أن هذا الأخير كان موقوفا
في السجن يوم الجلسة ولم يقع إحضاره يشكل سوء تطبيق الفصل 183 م.ا.ج إذ يستوجب على المحكمة قبل أن تحكم برفض الاعتراض شكلا وبالرغم من غياب المعترض
الموقوف بتاريخ الجلسة المعينة له ثم أن تتأكد من عملية نقله من المؤسسة السجنية
الموقوف فيها بما أنه عاجز عن التنقل بمفرده للحضور بالجلسة.
بما أن القوة
القاهرة هي كل شيء لا يستطيع الإنسان دفعه كالحوادث الطبيعية فإن الفيضانات أو الزلزال وغيرها من الكوارث الطبيعية قد تتسبب عند حدوثها في
انقطاع الطرقات وانعزال المدن بعضها
عن بعض
وبالتاي تؤدي إلى تغيب المتقاضين بما فيهم المعترضين فكان من باب العدل والإنصاف
أن يقدر المشرع هذه الظروف ويستثنيها من أحكام الفصل 183 م.ا.ج التي تبقى المبدأ
أما فقه القضاء المصري قد أخذ بنظرية القوة القاهرة واعتبرها
استثناء لمبدأ وجوبية حضور المعترض بالجلسة الاعتراضية. فإذا كان غياب المعارض
بسبب عذر قهري فلا يجوز الحكم باعتبار معارضته كأن لم تكن ويعتبر من قبيل الأعذار
المقبولة وجود المعارض في السجن، أو في المستشفى أو في معسكر التجنيد، شرط أن يقدم
المعارض دليلا على أنه كان في وحدته في ذات يوم جلسة المعارضة أو اضطراره إلى
البقاء في بلدته لتشييع جنازة أحد الأقارب، أو تلبية طلب القضاء في جهة أخرى أو
حجزه في بلدة بسبب انتشار وباء أو انقطاع المواصلات يوم نظرالمحكمة في القضضية
الاعتراضية بسبب هطول أمطار غزيرة
وعلى العكس من ذلك فإنه لا يعتبر من الأعذار المقبولة
عند تغييب المعترض تعطل السيارة التي استقلها للتحول إلى مقر المحكمة ففي هذه الحالة يعتبر المعترض غير مهتم باعتراضه ويهدف إذن المماطلة وتأخير الفصل
في دعواه بالتالي فإن المحكمة ترفض اعتراضه شكلا تطبيقا لما جـــاء بالفصــــل 400
م.ا. مصرية.
هذا فيما يتعلق بمسألة الحضور الشخصي للمعترض لكن المشرع
إضافة إلى اشتراطه للحضور الشخصي للمعترض بالجلسة الاعتراضية فإنه أوجب عليه
القيام باستدعاء خصومه.
الفقـــرة الثانية: استدعاء الخصوم
أ-
المعنيين بالاستدعاء
الأصل أن الدعوى العمومية تحدد أطرافها في النيابة
العمومية القائمة بالتتبع ويقوم مقامها ممثلو الإدارات العمومية المخول لهم قانونا
ذلك والمتهم والقائم بالحق الشخصي.
فإذا اعتبرنا أن النيابة العمومية طرفا أصليا في الدعوى،
فإن إعلامها أو استدعائها لجلسة الاعتراض يقدم إلى كتابة المحكمة وهي تعمل إداريا
تحت إشراف النيابة العمومية وتحدد الجلسة بعلم النيابة العمومية وهو ما يبرر عدم
استدعائها باعتبارها صاحبة الدار في الموضوع.
إلا أن الإشكال بالنسبة لممثلي الإدارات العمومية
القائمة بالتتبع في حدود ما خوله المشرع لهذه الإدارات من سلطة تتبع في مجال
اختصاصها. فقد اعتبرت محكمة التعقيب أن الفصل 175 فقرة أخيرة م.ا.ج أوجب على المعترض إعلام الخصوم باعتراضه عدى
النيابة العمومية ومن ضمنها القمارق فلا لزوم لإعلامها وقد استندت المحكمة في
قرارها المذكور غلى أحكام الفصل 210 م.ا.ج بفقرته الرابعة الذي اقتضى أن الإدارات
العامة والفروع المالية معتبرة ممثلة للنيابة العمومية وحينئذ فاستدعائها بجلسة
الاعتراض غير واجب لأنها معتبرة ممثلة في قلم الإدعاء العام.
وبذلك فإن اعتبار الإدارات العمومية تنظم إلى النيابة
العمومية يستقيم من الناحية النظرية لكن الواقع العملي يبرز الانفصال الهيكلي
الإداري بين النيابة العمومية وهذه الإدارات بحيث يبقى مقر هذه الإدارات بحيث يبقى
مقر هذه الإدارات خارج إطار المحكمة وبالتالي فإن علمها بالاعتراض وبجلسة الاعتراض
ليس من بديهيات الأمور إذ لا بد من أن يقع ربط جسور الاتصال بينها وبين النيابة
العمومية من ناحية، وبينها وبين المتهم من الناحية الأخرى.
وقد سكت المشرع عن وجوب استدعاء هذه الإدارات فيما يخصها
من الجرائم المعترض عليها ويفسر ذلك بالارتباط العضوي بينها وبين النيابة العمومية
في ذهن المشرع، كما لا نجد أثرا إجرائيا لوجوب استدعاء هذه الإدارات أو لطريقة
استدعائها وقد جرى العمل في المحاكم أن تتولى المحكمة استدعاء الممثل القانوني
لهذه الإدارات.
وفي اعتقادنا أن حضور هذه الإدارات إن كان مؤسسا على فرض
مناقشة التهمة وجاهة وثبوتا وإسنادا فإن الأمر يصبح من الضرورة بمكان استدعائها
واعتبارها طرفا قائما في الدعوى شأنها شأن القائم بالحق الشخصي تطبيقا لمبدأ
"الواجهة واستقلالية التتبع وسلطة التتبع الممنوحة لهذه الإدارات وتمكين
المحكمة من مناقشة سلامة الإجراءات كما لو أن الإجراء متعلق بقرار من الوزير دون
أن يمنحه القانون حق تفويض هذه السلطة إلى منظوريه والحال أن قرار التتبع ممضى من
أحد منظوريه بناء على تفويض مثل ما هو معمول نه في جرائم الاتصالات
وأمام سكوت المشرع عن وجوبية استدعاء ممثلي الإدارات العامة،
يعتبر هذا الاستدعاء غير موجب ولا يدخل ضمن شروط صحة الاعتراض.
أما فيما
يتعلق بالقائم بالحق الشخصي والذي قضى الحكم الغيابي بالاستجابة لطلبه وتعويضه عن
المضرة التي لحقته من الجريمة فإن وجوبية استدعائه يتوقف على تحديد مجال الاعتراض
من طرف المتهم. إذ أن هذا الأخير في مطلبه يبين مجال الاعتراض لأن الاعتراض من حيث
الأصل ينصب على الدعوى العمومية وبالتالي على الحكم الجزائي واستثناء يمكن أن يطال
فضال عن ذلك الدعوى المدنية متى كان المتهم يرمي من وراء ذلك عرض الدعوى المدنية
من جديد على المحكمة ففي هذه الصورة
يجب عليه استدعاء القائم بالحق الشخصي ووجوب الاستدعاء
مصدره تكريس مبدأ المواجهة الإجرائية إذ بالرغم من وصفها بالدعوى المدنية فإن
ارتباطها بالدعوى العمومية يؤسس لاحترام مبدأ المواجهة الإجرائية فيكون من حق
القائم بالحق الشخصي أن يقع إعلامه واستدعاؤه للجلسة وباعتبار أن الدعوى المدنية
لا تهم إلا أطرافها فإن الالتزامات المنبثقة لا تلزم إلا أطرافها بالتالي فلا دخل
للنيابة العمومية، المشرف الإداري الإجرائي على الدعوى العمومية ويصبح الأمر من
مشمولات المعنيين بالدعوى المدنية لخصوصيتها وعدم ارتباطها بالنظام العام لذلك
أوجب المشرع على المعترض أو نائبه[52]
أن يعلم من يهمه الأمر فينحصر في القائم بالحق الشخصي والذي إما أن يكون المتضرر
مباشرة أو من ينوبه قانونا وهو وليه أو وصيه أو كيله حتى يكون هذا الأخير على بينة
من أن الدعوى المدنية المحكوم فيها مرتبطة بحكم غيابي جزائي سوف يقع إعادة النظر
فيها من جديد باعتبار أن الاعتراض من آثاره إلغاء الحكم الغيابي في الناحية
الجزائية وما ارتبط به من دعوى مدنية حتى يتمكن القائم بالحق الشخصي من ممارسة حقه
في النضال عن حقوقه المدنية في هذه الدعوى.
ب-
إجـــراءات الاستدعــاء
إذا ما أقصينا وجوب استدعاء النيابة العمومية أو من يحل
محلها من موظفي الإدارات العمومية في نطاق ما عهد لهم القانون بذلك. فإن الاستدعاء
ينحصر أساسا في القائم بالحق الشخصي وباعتبار أن استدعاء هذا الأخير بالنظر في
الدعوى المدنية والتي تهم أطرافها فإن المشرع أقصى بالإيحاء إمكانية استدعاء
القائم بالحق الشخصي في الجلسة الاعتراضية بالطريقة الإدارية وهي التي تهم طريقة
الاستدعاء لأعمال الجلسة الجزائية طبقا لأحكام الفصل 134 م.ا.ج وبذلك فإن الوسيلة
الناجعة والضامنة لأثر كتابي رسمي للقيام بهذا الواجب هو أن يتم بواسطة عدل تنفيذ
باعتباره مأمور عمومي له صفة شبه موظف عمومي وما يحرره يعتبر من الكتائب الرسمية
التي لا يطعن فيها إلا بالتدليس لضمان الحجية المطلقة في مجابهة الغير.
وبذلك فإن المعترض الذي يروم عرض الدعوى المدنية يتحمل
نفقات الاستدعاء بواسطة عدل التنفيذ وبمراجعة الفصل 175 في فقرته التاسعة يعتبر
الاستدعاء بواسطة عدل تنفيذ شرط صحة غير أنه إذا كان الغرض من الاستدعاء تمكين
القائم بالحق الشخصي من مبدأ المواجهة للنضال عن حقوقه المدنية فلا مانع إذا تم
استدعائه بطريقة أخرى ترك أثرا كتابيا مثل رسالة مضمونة الوصول مع جذر الإعلام
الاعتراض على الحكم الغيابي
بالبلوغ وحضور هذا الأخير بالجلسة يعتبر قبولا لهذه
الطريقة وتنازلا عن شرط الاستدعاء بواسطة عدل منفذ طالما أن ذلك لا يمس بحقوقه
فضلا عن أن الارتباط الإجرائي بين الدعوى المدنية والدعوى العمومية يسمح بذلك. وقد
جرى فقه القضاء على اعتبار أن الحضور بالجلسة يصح الخطأ في إجراءات الاستدعاء كما
هو الحال فيما يتعلق بعدم احترام الآجال.
أما بالنسبة لآجال الاستدعاء فإن المشرع استوجب أن يكون
قبل ثلاثة أيام على الأقل من تاريخ الجلسة[ ولم يوضح المشرع بداية حساب أجل الثلاثة أيام. هل هو من اليوم الموالي لتوجيه
الاستدعاء أو لبلوغه. وقد استقر فقه القضاء على عدم الاعتداد بأجل توجيه الاستدعاء
إلا أنه لا مانع من اعتبار صحة الإجراءات على نحو ما سلف ذكره إذا لم يقع مراعاة
أجل ثلاثة أيام ورغم ذلك حضر القائم بالحق الشخصي بالجلسة فإن حضوره يصحح
الإجراءات.
وهكذا يتضح
لنا من خلال ما وقع التعرض إليه أن المشرع التونسي قد أحاط وسيلة الطعن بالاعتراض
بجملة من الشكليات فلئن كان الاعتراض طريقة لحماية الغائب الذي لم يتمكن من الدفاع
عن نفسه فلا يجب أن تؤول هذه الحماية إلى تعطيل القضاء. لذلك من جهة أوجب المشرع
على المحكوم عليه المعترض احترام الآجال القانونية لتقديم اعتراضه وواجب حضوره
شخصيا بجلسة الحكم إليها المعينة للنظر في الاعتراض إلى جانب وجوب استدعاء خصومه
ومن جهة أخرى رتب الآثار القانونية الناتجة عن ممارسة الطعن بالإعتراض.