ميدان الحماية القانونية والقضائية للتونسيين بالخارج
لم يعد الأجنبي يعامل معاملة العدوّ كما
كان ينظر إليه في العصور الغابرة حيث كان يهدر دمه وتستباح أمواله ما لم يكن ضيفا
يشمله أحد المواطنين بحمايته. بل أصبحت كلّ دولة في علاقاتها بالدولة الأخرى تنظر
بعين الاعتبار إلى كيفية معاملة رعاياها في الخارج وقد استقر الرأي في فقه القانون
الدولي العام على أنه يجب على كلّ دولة أن تضمن في تشريعها حدّا أدنى من الحقوق
للأجانب ولرعاياها في الخارج .
وقد كانت تونس من بين هذه الدول التي وضعت حماية حقوق الجالية وذلك بسنّ قوانين تأسّس
هذه الحماية في العديد من الميادين وهو ما سيقودنا إلى التعرّض في فصل أوّل إلى
أساس الحماية وفي فصل ثاني إلى مظاهر الحماية.
الفصل الأوّل : أساس
الحماية القانونية والقضائية للتونسيين بــــــالخــــارج :
لقد عمل المشرّع التونسي على حماية حقوق
التونسيين بالخارج والدفاع عن سلامتهم وكرامتهم ومصالحهم وتأمين مستقبلهم وذلك على
المستوى الثنائي أو الإقليمي والدولي. فالحماية القانونية والقضائية للتونسيين
بالخارج مكرّسة في القانون الدولي وهو ما سنتعرض له في مبحث أوّل. وفي القانون
الداخلي وهو موضوع المبحث الثاني وكذلك عن طريق المعاملة بالمثل وهو ما سنتعرض له
في مبحث ثالث.
المبحث الأوّل : القـانــون الدولــي.
إنّ علاقات الأفراد ذات العنصر الأجنبي
كثيرا ما تنعكس على علاقات الدول لاهتمام هذه الدول بشؤون رعاياها، ولما بينها من
اتصال وتعاون في الحياة الدولية. فيقوم النزاع فيما بينها، لذا كان لا بدّ من
التوفيق بين مصلحة البلد الأم وبين احترام سيادة الدولة المضيّفة وذلك بسنّ
اتفاقيات تكون إما ثنائية وهو موضوع الفقرة الأولى أو اتفاقيات متعددة الأطراف
موضوع الفقرة الثانية.
الفقرة الأولى : الاتفــاقيــات الثنــائيـة
:
وهي اتفاق إرادتين هما إرادتا الدوليتين
طرفي المعاهدة.
وهي أكثر وفرة من المعاهدات الجماعية
لقلّة المشاركين فيها ممّا يجعل الاتفاق أمرا ميسورا وهي أنواع شتّّى : منها
الاتفاقيات القضائية، وتلك المتعلقة بالناحية الاجتماعية كاتفاقيات الضمان
الاجتماعي، واتفاقيات العمل والإقامة، وحماية الاستثمارات إلخ.
وقد أبرمت تونس أولى الاتفاقيّات
القضائيّة الثنائيّة بتاريخ 14 جوان 1961 مع دولة مغاربية مجاورة وكانت أنذاك
المملكة الليبيّة المتّحدة وشملت الاتفاقيّة المواد المدنية والتجارية والجزائية
ومادة تسليم المجرمين.
وقد بلغ عدد هذه الاتفاقيات
والبروتوكولات المبرمة مع الدول الشقيقة والصديقة سنة 1997، 45 اتفاقا مع 29 دولة
دون اعتبار انقسام الاتحاد السفياتي وتشيكوسلوفاكيا السابقين وأبرم آخرها مع
الجمهورية الفرنسية في 17 جانفي 1997 ويتعلق في مجال إدارة القضاء.
وتتوزّع هذه الاتفاقيّات بحساب 11
اتفاقا مع الدول العربية أبرمت وفقا لترتيبها الزمني مع كل من ليبيا في شأن مسائل
الجنسية وذلك بتاريخ 14 جوان 1961 وكانت المصادقة بتونس وفق القانون عدد 1 لسنة
1962 المؤرخ في 09 جانفي 1962 وفي نفس التاريخ اتفاقية الإعلانات والإنابات وتنفيذ
الأحكام وتسليم المجرمين. والجزائر ولبنان والمغرب والأردن وموريطانيا والإمارات
العربية ومصر والكويت وسوريا وقطر. و 15 اتفاقا مع الدول الأروبية وهي على التوالي
ألمانيا الفيدرالية وإيطاليا ورومانيا وفرنسا وبلغاريا والنمسا وتشيكسلوفاكيا
وتركيا والمجر والاتحاد السفياتي وبولونيا وبلجيكيا واليونان والنرويج والسويد
وأخيرا ثلاث اتفاقيات مع دول إفريقية غير عربية وهي السنغال ومالي والكوديفوار
ويجري على المستوى الثنائي التحضير لتوقيع العديد من الاتفاقيات القضائية التي هي
بصدد التفاوض مع بلدان مختلفة نذكر منها بالنسبة لأوروبا إسبانيا والبرتغال
وبريطانيا والنمسا وبالنسبة لآسيا الصين وبالنسبة لأمريكا اللاتينية الأرجنتين.
أما بالنسبة للاتفاقيات الثنائية
المتعلقة بالضمان الاجتماعي فقد أبرمت تونس العديد من الاتفاقيات مع فرنسا
وبلجيكيا وهولندا ولوكسنبورغ وألمانيا وإيطاليا والنمسا وكذلك ليبيا والجزائر.
الفقرة الثانية : الاتفاقيات المتعددة الأطراف
هي اتفاقيات يكون طرفا فيها مجموعة من
الدول ومثال ذلك المعاهدات المتعلقة بالنقل البرّي والجوّي وهي اتفاقيات أشقّ
بكثير من المعاهدات الثنائية لأنها تجمع عددا من الوفود تختلف وجهة نظرها ونزعاتها،
وهي إما أن تتناول مسائل بسيطة وغامضة وعندها تكون لا قيمة لها أو أنها تضع بعض
القواعد التقدمّية التي تسطبغ بالجرأة والدقة، وفي هذه الصورة تتردّد الوفود
والبرلمانات في المصادقة عليها. لكن بالرغم من كل ذلك فقد تم إبرام عدة معاهدات
جماعية يمكن تلخيص هدفها في أمرين. هما توحيد القانون بين الدول وتوحيد القواعد
والحلول التي يجب إتباعها لتسوية الخلافات الناشئة عن التنازع بين القوانين فالهدف
الأول هو توحيد القانون بمعنى أن الاتفاقيات تضع قانونا موحدا واجب التطبيق في كل
بلد من البلدان المشاركة في إبرام المعاهدة وينتج عن ذلك أن القانون الجديد الذي
تضمّنته المعاهدة يجب إدخاله في القانون الوطني كالقانون المتعلق بالملكية
الصناعية وشهادة الاختراع واتفاقية بارن في سنة 1890 المتعلق بالملكيّة الصناعية
وشهادة الاختراع واتفاقية جينيف " Genève " في سنة 1930 المتعلّقة بالشيك والحوالات. ومن نتائج هذه
القوانين أنها تزيل التنازع.
أما الهدف الثاني فهو يرمي إلى توحيد
الحلول عند التنازع بين القوانين وقد بذلت عدة جهود لتوحيد حلول التنازع بين الأمم
منذ قرن ونصف من الزمن وأبرمت عدة اتفاقيات في هذا المجال لتوحيد حلول التنازع في
خصوص موضوع حقوق الأشخاص.
وقد صادقت تونس على اتفاقية فيينا
للعلاقات القنصلية والتي تعتبر أساسا جوهريا لحماية التونسيين بالخارج والتي حدّدت الوظائف القنصلية
المتمّثلة في حماية مصالح الدولة الموفدة ومصالح رعاياها في الدولة المضيفة وفي
منح الجوازات ووثائق السفر لرعايا الدولة الموفدة. وتقديم المساعدة والإعانة إلى
رعايا الدولة الموفدة سواء أكانوا أشخاصا طبيعيين أم معنويين.
كما عملت هذه الاتفاقية على حماية مصالح
رعايا الدولة الموفدة في قضايا الشركات في إقليم الدولة المضيفة وفقا لقوانين هذه
الأخيرة وأنظمتها وحماية مصالح الرعايا القاصرين أو فاقدي الأهلية من رعايا الدولة
الموفدة خصوصا عندما تكون الوصاية أو الولاية مطلوبة وذلك في حدود قوانين الدولة
المضيفة وأنظمتها. كما تقرّ هذه الاتفاقية إمكانيّة القيام بتمثيل رعايا الدولة
الموفدة أو اتخاذ القرارات لتأمين تمثيلهم المناسب أمام المحاكم أو السلطات الأخرى
في الدولة المضيفة من أجل الحصول وفقا لقوانين الدولة المضيفة وأنظمتها على
إجراءات موفقة للمحافظة على حقوقهم ومصالحهم عندما لا يكون بإمكانهم بسبب تغيبهم
أو لأي سبب آخر الدفاع في الوقت المناسب عن حقوقهم ومصالحهم. كما ينبغي أن يكون
للموظفين القنصليين حرية الاتصال برعايا الدولة الموفدة ومقابلتهم وأن يكون لرعايا
الدولة الموفدة الحرية عينها بالنسبة إلى الاتصال بالموظفين القنصليين ومقابلتهم.
وإذ قبض على أحد رعايا الدولة الموفدة
ضمن منطقة البعث القنصلية أو إذا سجن أو إذا احتجز احتياطيا بانتظار محاكمته أو
اخضع لأي شكل من أشكال الاحتجاز يمكنه الاتصال ببعثته القنصلية. ويجب على السلطات
المختصة في الدولة المضيفة أن تخطر دون تأخير البعثة القنصلية بذلك وأن تودعها دون
أي تأخير كل مخابرة موجهة من صاحب العلاقة إلى البعثة القنصلية. وعلى هذه السلطات
إعلام صاحب العلاقة دون تأخير بحقوقه.
وللموظفين القنصليين حق زيارة أي من
رعايا الدولة الموفدة، المسجون أو الموقوف أو المحتجز احتياطا أو الخاضع لأي شكل
من أشكال الاحتجاز، والتحدث إليه، ومراسلته، واختيار ممثل قانوني له، ولهم كذلك حق
زيارة أي من رعايا الدولة الموفدة إذ كان مسجونا أو موقوفا أو محتجزا في منطقتهم
القنصلية تنفيذا لحكم قضائي. ومع ذلك على الموظفين القنصليين أن يمتنعوا عن التدخل
لصالح أي مواطن مسجون أو موقوف أو محتجز احتياطا أو خاضع لأي شكل من أشكال
الاحتجاز إذا عارض صراحة قيامهم بهذا العمل.
كما تلتزم السلطات المختصة لدولة
المضيفة إذا توفرّت لها المعلومات المطلوبة بالأمور التالية :
* في حالة وفاة أحد مواطني الدولة
الموفدة إعلام البعثة القنصلية في المنطقة التي حصلت فيها الوفاة دون تأخير
* إخطار البعثة القنصلية المختصة دون
تأخير بكل حالة تستدعي تعيين وصي أو ولي لمواطن قاصر أو ناقص أهلية من رعايا
الدولة الموفدة وبالنسبة إلى تعيين هذا الوصي أو الولي، فلا يمكن المساس بتطبيق
قوانين الدولة المضيفة وأنظمتها.
* إعلام البعثة القنصلية الأقرب إلى
مكان وقوع الحادث في حال غرق سفينة تحمل جنسية الدولة الموفدة أو في حال جنوحها في
المياه الإقليمية أو الداخلية للدولة المضيفة، أو في حال تعرّض طائرة مسجلة لدى
الدولة الموفدة لحادث في إقليم الدولة المضيفة.
كما كانت الجمهورية التونسية طرفا في
اتفاقية الأمم المتحدة حول استخلاص مبلغ النفقة بالخارج المبرمة بنيويورك في 20
جوان 1956 واتفاقية الأمم المتحدة بشأن الاعتراف بالقرارت التحكيمية الأجنبية
وتنفيذها المبرمة بنيويورك في 10 جوان 1958 والاتفاقيّة العربية للتعاون القضائي
المبرمة بين الدول الأعضاء بجامعة الدول العربية بالرياض في 06 أفريل 1983،
واتفاقية اتحاد المغرب العربي المتعلقة بالتعاون القانوني والقضائي الموقعة برأس
الانوف بالجماهيرية الليبية في 9 و 10 مارس 1991 ولم تدخل بعد حيّز التنفيذ
لتوقفها على مصادقة المملكة المغربية.
وعلى المستوى الدولي يجري الإعداد
لاعتماد نص اتفاقية دولية للتعاون القضائي في مجال مكافحة الجريمة المنظمة بإشراف
منظمة الأمم المتحدة قامت فيها تونس بدور نشيط كما يتم باقتراح من تونس إعداد
اتفاقية عربية لمناهضة ظاهرة الإرهاب وزجرها بين الدول الأعضاء بجامعة الدول
العربية.
وتغطى الاتفاقيات الثنائية منها
والجماعية شتى مجالات التعاون القضائي سواء المدنية أو التجارية والتحكيم التجاري
أو الجزائية وتسليم المجرمين. وهي تنظم حقوق الأجانب والمواطنين التونسيين خارج
الوطن في التقاضي بكل حرية وبدون مصاريف استثنائية أمام المحاكم التونسية أو
الأجنبية وفي الحصول على الإعانة العدلية عند الاقتضاء. كما تنظم التعاون في مجال
الاستدعاءات والأوراق القضائية وغير القضائية الأخرى وتنفيذ الإنابات العدلية
والاعتراف بالأحكام والقرارات التحكيمية وتنفيذها وشروط وإجراءات تسليم المجرمين
وعبورهم.
ولقد سعت وزارة العدل خلال الأعوام
الأخيرة إلى تطوير محتوى الاتفاقيات القضائية على أساس الالتزامات والقواعد التي
تضمنتها المواثيق الدولية المختلفة ذات الصلة بالتعاون القضائي فتم تعديل
الاتفاقيتين المبرمتين مع كل من الأردن والكويت، كما تم التوصل إلى صيغة للتضييق
في مفهوم الجريمة السياسية في حالات تسليم المجرمين بارتكاب جرائم تتصف بالإرهابية
بحيث يكون التسليم في هذه الحالات واجبا وتمتنع الدول من منح حق اللجوء السياسي
ولو كانت دوافع الجريمة سياسية في حد ذاتها أو دينية أو عرقية. وقد نحت هذا المنحى
الاتفاقيات المبرمة مع كل من اليونان ودولة قطر ومشاريع الاتفاقيات المتفاوض
بشأنها مع كل من البرتغال والأرجنتين
وهذا من شأنه أن يحمي حقوق التونسي في
الخارج ويضمن سلامته وكرامته خاصة وأن الغاية تكمن في تنظيم العلاقات القضائية
دوليا فيما بينها على قدم المساواة وعلى نحو تحفظ به مصلحة مواطنيها وأمنهم كما
تحفظ به سيادتها على أرضها.
وقد كانت تلك الاتفاقيات متماشية في
معظمها مع روح تشاريعنا الداخلية وأحكامها، خاصّة باعتمادها لأحدث النظريات من
قواعد القانون الدولي الخاص.
وما تجدر الإشارة إليه هو التعارض بين
أحكام التشريع وصريح المعاهدة في المسألة المعروضة على القاضي والسؤال هو أيّهما
أولى بالتطبيق ؟
في هذه الحالة نفرق ما إذا كانت المسألة
معروضة على القاضي الدولي أو على القاضي الوطني وبين أن يكون التشريع الداخلي هو
الدستور أو غيره من القوانين الداخلية الأخرى.
ففي حالة ما إذا كان القاضي الدولي هو
المتعهد فإنه ليس له غير تطبيق الاتفاقية الدولية الملزمة للدولتين أو الدول
المتعاقدة وليس للدولة التخلي عن التزاماتها بدعوى مخالفتها لدستورها أو لقوانيها
الداخلية أما إذا كان النزاع أمام القاضي الوطني فإنه يمتنع عن تطبيق المعاهدة في
حالة تعارضها مع الدستور الذي هو أسمى تشريع في الدولة والقانون الأعلى لها لذلك نصّ الفصل 32 من الدستور التونسي المنقح
بالقانون الدستوري عدد 65 لسنة 1997 المؤرخ في 27 أكتوبر 1997 على أن "
المعاهدات لا تعد نافذة المفعول إلا بعد المصادقة عليها والمعاهدات المصادق عليها
بصفة قانونية أقوى نفوذا من القوانين شريطة تطبيقها من الطرف الآخر".
وعلاوة على الاتفاقيات الدولية فإن
القانون الداخلي عمل على حماية التونسي في الخارج وذلك في العديد من الميادين.
إرسال تعليق