مبـدأ التقاضـي علـى درجتيـن
لا يختلف إثنان في وجود القانون و ضرورته الإجتماعية ويحتمي المرء بالقانون دفاعا عن مصالحه فيكون دور عندئذ دورا حمائيا ينتفع به الضعيف أو المعتدى عليه حفاظا على مصالحه الذاتية و يكون ذلك بالإلتجاء إلى المحاكم إعتمادا على مبدأ المساواة في تطبيق القواعد القانونية .تحظى حقوق الإنسان في أواخر هذا القرن باهتمام رجال السياسة و الفكر و علماء الإجتماع، و لقد أصبحت تونس في مقدّمة الدول التي جعلت إقرار حقوق الإنسان و ضمانها من ثوابت و مقوّمات سياستها. و تدعيما للضمانات الممنوحة للمتقاضين ينتظم القضاء التونسي على أساس ثنائية درجات التقاضي الذي كرّسته المواثيق الدولية و الدساتير و القوانين الداخلية.و الرأي عند بعض الباحثين إن حق التقاضي على درجتين أو الحق في محاكمة عادلة و منصفة تقتضي توفير ما يكفي من الضمانات القانونية الإجرائية لكل فرد يجد نفسه في مواجهة أجهزة القضاء، و ذلك حتى يكون القرار و الحكم المتخذ في شأنه أقرب ما يكون للعدل و الإنصاف.و باعتبار أن مبدأ التقاضي على درجتين هو وسيلة التشريع التونسي يوفر من خلاله الضمانات الإجرائية للمحاكمة العادلة على الصّعيد الجزائي التي يمكن تسميتها بالضمانات الأصلية للمبدأ (الفصل الأول) لكن بما أن الإستئناف هو طريقة الطعن بامتياز خاصة فيما يخص آثاره و تكريسه للتقاضي على درجتين لذلك تعتبر الضمانات الإجرائية (الفصل الثاني) من أهم الضمانات التي يوفرها المبدأ.<p> </p>الفصل الأول :الضمانات الأصلية لمبدأ التقاضي على درجتين.
<p> </p>يعتبر مبدأ التقاضي على درجتين في جانب المتقاضي حقا مشروعا لذلك كان لزاما كما هو الحال مع كل الحقوق التي يقرها الدستور و القانون أن يقع تنظيم ممارسة هذا الحق، إذ من المعلوم أنه لا يكفي أن يعترف بحق ما بل لا بدّ من وضع آليات تكفل حماية الحق و تنظيم طرق ممارسته حتى لا يبقى الحق مجرّد مبدأ نظري و بالنتيجة لذلك فإن المركز القانوني للحق يتحدّد بمدى دفاع صاحبه عنه حيث ان حقوق الدفاع تعتبر قوام المحاكمة العادلة. و يعتبر مبدأ التقاضي على درجتين في المادة الجزائية ضمانا هاما للدفاع عن حقوق المتقاضين الشرعية (مبحث أول) فضلا عن كونه يعدّ إحدى الوسائل الضرورية التي تكفل حسن سير العدالة (مبحث ثاني).<p> </p>مبحث أول : حق الدفاع : امتداد للتقاضي على درجتين: تكتسي حقوق الدفاع في الدعوى العامة أهمية كبيرة و هذا ما جعل التشريعات المنظمة للإجراءات الجزائية تهتمّ بهذه المسألة و المقصود بها مجموع الضمانات الممنوحة للمتهم في الدعوى الجزائية و هي ضرورية في سبيل حسن سير القضاء و لتفادي الأخطاء القضائية التي قد تؤدي إلى الحكم على شخص بريء أو تسليط عقاب على متهم يتجاوز ما يستحقه.و قد أجمع شرّاح القانون و فقه القضاء على أن مفهوم حقوق الدفاع يهم النظام العام الأمر الذي جعل كل إجراء مخالف لها باطلا.و يعتبر الحق في إنابة محامي من ابرز مظاهر حقوق الدفاع (فقرة أولى) و هي مرحلة أولية تسبق إعداد آليات الدفاع (فقرة ثانية).<p> </p>فقرة أولى : الحق في إنابة محاميإن حقوق الدفاع تقتضي توفير ما يلزم من الضمانات ليدافع ذو الشبهة عن نفسه بصورة شخصية أو بواسطة محامي محترف و تنص المادّة 12 من الدستور التونسي أن "كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها جميع الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه ".و من أبرز مظاهر حقوق الدفاع، حق المتّهم في إنابة محامي لمساعدته في دحض الأدلة التي تقدمها النيابة العمومية و قد تضمنت مجلة الإجراءات الجزائية جملة من الأحكام كرّس المشرّع التونسي من خلالها الحق في إنابة محامي، كما وجد هذا الإجراء إمتدادا له في المواثيق و العهود الدولية حيث أقرّته المادّة السادسة من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، و كذلك الفقرة الثالثة من المادّة الرّابعة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .وتعدّ المحاماة من ابرز المهن المساعدة على إقامة العدل وأعرقها وبالنظر إلى الدور الأساسي الذي يؤديه المحامون في توفير ضمانات المحاكمة العادلة و المنصفة إعتنى المشرّع التونسي بهذا السلك و نظمه بإصدار قانون 7 سبتمبر 1989 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة. و لقد ركز المشرّع على استقلالية المحامي. و يندرج تطوير المحاماة ضمن دعم حقوق الدفاع في نطاق التوجه العام الرامي إلى تعزيز حقوق المتقاضي في الدفاع.و يتبيّن من خلال هذه النصوص أن للمتّهم الحق في إنابة محامي في كامل مراحل الدعوى سواء في طور التحقيق (أ) او المحاكمة (ب).<p> </p>أ – طــور التحقـيــق :بالرجوع إلى مجلة الإجراءات الجزائية، و تحديدا إلى الفصل 69 منها يتبيّن انه على قاضي التحقيق إعلام ذي الشبهة عند حضوره لأول مرّة، بأن له الحق في ألاّ يجيب إلاّ بمحضر محامي، كما أنه يجب التنصيص على هذا التنبيه بالمحضر.لكن المشرّع التونسي لم يقرّ جزاءا للإخلال بهذا الإجراء. و الرأي عند بعض دارسي القانون أنه إجراء أساسي يهم مصلحة المتهم الشرعية و بالتالي فإن الإخلال به يعتبر هضما لحق الدفاع موجبا لبطلان الإجراءات طبق الفصل 199 من م.ا.ج .و إذا تمسّك ذو الشبهة بحقّه في إنابة محامي و عدم الجواب إلاّ بحضوره، فإنه على حاكم التحقيق إرجاء الإستنطاق إلى أن يحضر نائب ذي الشبهة طبق الفصل 72 من م.ا.ج غير أن الفصل 69 خوّل لقاضي التحقيق إجراء استنطاق في الحين بدون مراعاة الأحكام المذكورة أعلاه إذا كان هناك تأكد أو حالة تلبّس بالجريمة و باستثناء هذه الحالة الخاصة فإن لذي الشبهة الحريّة الكاملة في إختيار من سيدافع عنه و ليس لأي كان أن يفرض عليه محاميا معينا. و عندما يقع الإختيار فعلى قاضي التحقيق إستدعاؤه فإذا لم يحضر المحامي المختار فإن أعمال التحقيق تجرى دون توقّف على حضوره.و تكريسا لحق المتهم في تكليف محام أوجب الفصل 69 المشار إليه على رئيس المحكمة تعيين محام إذا كانت الجريمة موضوع التحقيق جناية أما إذا كانت الجريمة جنحة فإن المشرّع لم يفرض هذا التعيين، و لعل السبب في جعل هذا الإجراء وجوبيا في الجنايات دون سواها يرجع إلى خطورتها و صرامة العقوبات التي تهدد المتهم . و لم يشترط المشرّع شروطا أخرى لتعيين محام لحضور عملية الإستنطاق فلا فرق بين مظنون فيه معوز و آخر غني لأن حق الدفاع مطلق يتساوى أمامه المتهمون الذي تجمعهم نفس الوضعية.و قد استقرّ فقه القضاء على وجوبية المحامي في المادّة الجنائية "يستخلص من الفقرة الأخيرة من الفصل 141 من م.ا.ج وجوبية المحامي أمام المحكمة الجنائية و أن تلك الوجوبية تقتضي حسب مدلول النص أن من لم يكلف محاميا للدفاع عنه تسخّر له المحكمة محاميا ينوبه لدى المحكمة الجنائية".و إذا كان حضور المحامي إجباري في الجنايات أمام قاضي التحقيق فإن الأمر يختلف عمّا هو عليه بالنسبة للجنح و المخالفات باعتبار أن التحقيق فيها غير وجوبي و بالتالي فإن المشرّع لم يفرض تسخير محامي فيها للدفاع عن المتّهم لكن ذلك لم يمنعه من إحاطة المتّهم أثناء الطور التحقيقي بجملة من الإجراءات الأساسية التي من شأنها تدعيم ضمانات المتهم في الدفاع عن نفسه. و يتبيّن ذلك من خلال الفصل 68 م.ا.ج الذي اوجب على قاضي التحقيق استدعاء ذي الشبهة كتابة بالطريقة الإدارية أو بواسطة عدل منفذ و يجب أن يتضّمن الإستدعاء هويّة المتّهم و مكان و تاريخ و ساعة حضوره و نوع التّهمة، و قد اعتبرت محكمة التعقيب أنه يمكن لقاضي التحقيق في صورة التأكد عدم اتباع هذه الطريقة و استدعاء المظنون فيه بالهاتف إذا إقتضت ظروف القضية ذلك و يتبيّن حرص المشرّع التونسي على أن يضمن للمظنون فيه حق الدفاع عن نفسه من خلال الفصل 69 من نفس المجلة الذي ينصّ على أن حاكم التحقيق يعرّف ذا الشبهة بالأفعال المنسوبة إليه و النصوص القانونية المنطبقة عليها... و يجب أن يتيح الإستنطاق لذي الشبهة فرصة إبعاد التّهمة عنه أو الإعتراف بها..." واعتبر فقه القضاء أن إحالة المظنون فيهم من اجل جريمة لم يقع استنطاقهم من اجلها يعدّ إخلالا بمقتضيات الفصل 69 الذي تعلقت أحكامه بمصلحة المتهم الشرعيّة و الإجراءات الأساسية .كما أوجب الفصل 76 من م إ ج على حاكم التحقيق أن يعرض على ذي الشبهة الأشياء المحجوزة ليصرّح هل أنه يعترف بها و ليلاحظ بشأنها ما يراه مفيدا ".و حرصا منه على حماية إجراء الدفاع أقرّ المشرّع التونسي مبدأ الإعانة العدلية، للفقراء و المعوزين و نظمها بمقتضى أمر 13 فيفري 1992 بالنسبة للمحاكم العدلية، حيث أوكل النظر في إسناد هذه الإعانة كاملة أو جزئية للجنة الإعانة العدلية، كما تعرّض لذلك قانون المحاماة عدد 87 لسنة 1989 المؤرخ في 7 سبتمبر 1989 في فصله 136 كما صدر في هذا الإتجاه قانون عدد 2127 لسنة 1994 في 10 اكتوبر 1994، و قد تعلق بمنحة التسخير لفائدة المحامين المتمرّنين المسخرين في قضايا جنائية .و باعتبار الإستئناف يهدف في جوهره إلى إعادة النظر في الدعوى و مراقبة الحكم الصادر فيها واقعا و قانونا بتقييم جديد لعناصر الدعوى و بإمكانية إضافية لمزيد البحث و التحري، فإن مبدأ التقاضي على درجتين لا يمكن حتما أن يؤدي دوره و يحقق جدواه دون أن يعطي تواصلا حقيقيا و فعليا لحقوق الدفاع و خاصة للحق في إنابة محامي لدى الدرجة الثانية و هو الأمر الذي لم يتغافل عنه مشرّعنا الذي أكّـده بصورة صريحة و إن اختلفت في طرقها .و فيما يخص الدرجة الثانية تحقيقا ينص على أنه "لنواب المظنون فيه والقائم بالحق الشخصي حق الإطلاع على أوراق القضية، كما لهم حق تقديم طلبات كتابية" و يضيف الفصل 115 من نفس المحكمة أن أحكام الفصل 114 تنطبق على القضايا المحالة على دائرة الإتهام بموجب الإستئناف و هو ما يفيد بالنتيجة أنّ حضور المحامي كممثل للأطراف و كضمان لحقوقهم في الدفاع قد ضمنه المشرّع و إن كان تواجده معنوي (يعني انه يقتصر على التقارير والمذكرات الكتابية).حيث أن إرادة المشرّع اتجهت إلى إكساء الإجراءات لدى دائرة الإتهام بطابع كتابي و غير وجاهي يميل إلى السرعة في الوقت وإلى إختزال النفقات ومصاريف التقاضي اكثر من التقيّد المفرط بالضمانات و بالحقوق الإجرائية التي قد يفرغها ذلك من محتواها .<p> </p>ب – طور المحاكمة :تمتدّ حقوق الدفاع على مستوى درجتي المحاكمة بمقتضى الإستعانة الوجوبية بالمحامي بالنسبة للجنايات و التي تضمنها الفصل 141 جديد م.ا.ج حيث نصّ في فقرته الأخيرة على أن " الإستعانة بمحام وجوبية أمام المحكمة الإبتدائية المنتصبة بمقرّ محكمة الإستئناف فإذا لم يعيّن المتهم محاميا يعيّن الرئيس من تلقاء نفسه أحد المحامين للدفاع عنه ".و يتبيّن من خلال هذا النص حرص المشرّع على الحفاظ على حريّة المتهم في اختيار محام للدفاع عنه و أن هذا الحق هو مقدّم على حق المحكمة في تعيينه. و قد كرّس المشرّع المصري نفس القاعدة معتبرا أن المتهم إذا اختار محاميا فليس للقاضي أن يعيّن محاميا آخر ليتولى الدفاع عنه إلاّ إذا كان المحامي المختار قد بدا منه ما يدلّ على أنه يعمل على تعطيل سير الدعوى و قد قضت محكمة النقض المصريّة بناءا على ذلك بأنه إذا كان الظاهر من الأوراق أن المتهم سعى جهده في حمل سلطة التحقيق و سلطة المحاكمة على سماع شهود بطلبه، إلى النيابة سماع شاهدين في التحقيق الإبتدائي، ثمّ بطلبه إلى قاضي الإحالة تقرير سماعها، ثمّ بعمله كل ما في وسعه لإعلامهما بالحضور أمام المحكمة بعد أن أحيلت إليها القضية دون أن يأمر قاضي الإحالة بإعلامهما متّبعا في ذلك الإجراءات المنصوص عليها، عندما ردّ المحضر الورقة بدون إعلام بدعوى عدم بيان محلّ سكن الشاهدين مع أن محلّهما مبيّن بتلك الورقة بيانا تامّا، تمسّك هو أمام المحكمة بضرورة سماع هذين الشاهدين، فرفضت المحكمة التأجيل بمقولة أنه غير جاد في طلبه فانسحب محاميه فندبت له المحكمة محاميا غيره، وأحيلت القضية لليوم التالي، و حكمت فيها وقضت عليه بالعقوبة فإنها تكون قد أخلّت بحقّه في الدفاع إذ كان عليها في هذه الحالة أن تجيبه إلى طلبه ولا يسوغ لها أن تعيين محاميا آخر ليدلي بدفاع آخر ". أمّا بالنسبة للجنح و المخالفات فإن الأمر موكول للمتّهم الذي له الحرية الكاملة في الإستعانة بمحام إن رغب في ذلك، على أنّ المشرّع مكن المتهم من ممارسة حقّه في الدفاع عن نفسه حتى بدون وجود محام و يتبين ذلك من خلال جملة من الضمانات يتجلى بيانها كالآتي:<p> </p>1 ـ ضرورة استدعاء المتهم :حدّد المشرّع طريقة الإستدعاء بالفصول من 134 إلى 140 م.ا.ج التي نصت على ضرورة بيان الجريمة المنسوبة للمتهم و المحكمة المحال عليها وتاريخ الجلسة و قد حدّد الفصل 136 من نفس المجلة الأجل الفاصل بين يوم توجيه الإستدعاء و اليوم المعيّن للحضور بالجلسة و هو ثلاثة أيام: أما إذا كان المستدعى قاطنا خارج تراب الجمهورية يكون الأجل ثلاثين يوما و ذلك حتى يتمكن المتّهم من إعداد وسائل دفاعه و تهيئة نفسه لمواجهة الدعوى الموجهة ضدّه.و بالنسبة للمظنون فيه الموقوف فهو يستدعي بواسطة كبير حرّاس السجن.كما نصّ الفصل 140 م.ا.ج على وجوب أن يبيّن بأصل الإستدعاء وبنظيره أو بجذره إسم المكلف بالتبليغ كما يتعين أن يمضي به المستدعى و في صورة الإمتناع من الإمضاء أو عدم القدرة عليه يقع التنصيص على ذلك. و قد اعتبر فقه القضاء أن الإخلال بإجراءات التبليغ يوجب نقض الحكم الذي اعتمدها كما أكد أن عدم إستدعاء المتهم للجلسة المعينة بصفة قانونية ليتمكّن من الدفاع عن حقوقه يجعل الحكم مستهدفا للنقض.<p> </p>2ـ الحضور بالجلسة: يفرض المشرّع على المتّهم الحضور بالجلسة شخصيا إذا كان التتبع من أجل جناية أو جنحة حسب منطوق الفصل 141 م.ا.ج. أما في الجنح التي لا يستوجب عقابا بالسجن أو عندما يقع التتبع بطلب مباشر من القائم بالحق الشخصي فإنه بإمكانه عدم الحضور شخصيا على أن نفس الفصل يجيز للمحكمة دائما أن تأذن بإحضاره شخصيا إذا رأت ذلك لازما و قد صدر في هذا الإطار قرار تعقيبي يكرّس مبدأ التقاضي على درجتين و يكرّس ضمانات المتهم الشرعية و قد اعتبر " إن صدور حكم إستئنافي ضد شخص لم يسبق مقاضاته ابتدائيا من أجل جريمة اقترفها فيه خرق للقانون " .<p> </p>3ـ تغيير وصف الجريمة:إنّ المحكمة الجزائية تتعهد بالأفعال و ليست مقيّدة بالوصف القانوني الذي تعطيه النيابة العمومية أو حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام لتلك الأفعال لأنه يمكن للمحكمة أن تغير الوصف القانوني للجريمة المنسوبة للمتهم و قد اقرت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب هذا المبدأ في قرار لها جاء فيه " أن من مستلزمات هذا النص (الفصل 170 من م.ا.ج) أن الأفعال إذا كانت تشكل جريمة أخرى غير التي تمّ بها التعهد تكون المحكمة مجبرة بالقضاء فيها و يكون حكمها شاملا لكل الأوصاف القانونية للأفعال المطروحة عليها و تفريعا على ذلك لا يجوز رفع دعوى جديدة بوصف آخر بناءا على نفس الأفعال المقضى فيها".و غير بعيد عن هذا الإتجاه استقر على ذلك فقه القضاء المصري و نورد في هذا السياق إحدى القرارات: " الأصل أن محكمة الموضوع لا تتقيّد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العمومية على الفعل المسند إلى المتهم و أن من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع كيوفها وأوصافها و أن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا لأنها و هي تفصل في الدعوى لا تتقيّد بالواقعة في نطاقها الضيّق المرسوم في وصف التهمة المحالة عليها بل أنها مطالبة بالنظر في الواقعة الجنائية التي رفعت بها الدعوى على حقيقتها كما تتبينها من الأوراق ومن التحقيق الذي تجريه بالجلسة، إلاّ أنه يجب أن تلتزم في هذا النطاق بالواقعة المطروحة و إلا ينطوي الوصف الجديد على تحوير لكيان الواقعة المادية التي أقيمت بها الدعوى و لبيانها القانوني و يجاوز نطاق التكييف القانوني للواقعة، أي مجرّد ردّها إلى أصل من نصوص القانون الواجب التطبيق و إلا ينطوي على مساس بكامل عناصر جريمة أخرى لم ترفع بها الدعوى و لم يتناولها التحقيق أو المرافعة... " .و قد كرّست محكمة التعقيب هذه القاعدة صلب القرار المؤرخ في 2 ديسمبر 1992 الذي نص على "أنه من المقرر قانونا أن المحكمة عندما يحال عليها متهم لإرتكاب أفعال معينة تكون مقيّدة بالنظر في خصوص تلك الأفعال ولكنها حرّة في تطبيق الوصف الحقيقي الذي تراه منطبقا عليها على معنى الفصول 169 و 170 و 171 من م.ا.ج و تبعا لذلك فعلى المحكمة أن تطبق في حدود تلك الأفعال الوصف القانوني الذي تراه صحيحا حسبما يمليه ضميرها بشرط التعليل الصحيح المستساغ قانونا و ذلك دون التقيّد بوصف قرار الإحالة " .و إذا كانت إرادة الشارع اتّجهت إلى حماية المظنون فيه و تمكينه من حق الدفاع عن نفسه حتى إن إقتضى الأمر تسخير محام له مثلما ورد بيانه في إطار مجلة الإجراءات الجزائية التي تمثل القانون الجزائي العام فما بالك بالقانون الجزائي الخاص بالأطفال الجانحين حيث ورد بالفصل 77 فقرة ثانية من مجلة حماية الطفل أنه "إذا كانت الأفعال المنسوبة للطفل ذات خطورة بالغة يجب على وكيل الجمهورية تسخير محام إذا لم يسبق للطفل أن إنتدب محاميا للدفاع عنه". و يتبين من خلال هذه الفقرة أن المشرّع أوجب أولا على وكيل الجمهورية هذا التسخير و ربطه من ناحية أخرى بخطورة الأفعال فهل يعني هذا أنه إذا كانت الأفعال أقل خطورة لا تستوجب محاميا؟إن المتمعّن في سياسة المشرّع يلاحظ أن المشرّع في إطار مجلة حماية الطفل تضمن معالم سياسية جنائية وقائية تمنع سقوط الطفل في مهاوي الإنحراف. فقد حرص المشرّع على وضع تدابير رعائية و وقائية للطفل الذي وضعه مهيّأ للإنحراف و ذلك بالتركيز على العمل الوقائي. وترتيبا على ذلك فإن سياسة التجريم الحديثة في تونس تأخذ بعين الإعتبار شخصية مرتكب الفعل الإجرامي و ظروف نشأته و خطورة الفعل المنسوب إليه متخلية عن العديد من المبادئ الزجرية الكلاسيكية.وبالتأمّل في مجلة حماية الطفل نلاحظ أن المشرّع قد ضيق من نطاق الجرائم الخطيرة باعتبار أنه اقر امكانية تجنيح كل الجنايات ما عدا جرائم القتل كما اقر العمل بمبدأ الوساطة لكنه استثنى منها الجنايات و ذلك حسب منطوق الفصل 115 من م.ح.ط ، و ترتيبا على ما تقدّم تبيّن أن ربط تسخير المحامي بالجرائم الخطيرة يستجيب لأهداف المشرّع الذي يراعي مصلحة الطفل الفضلى وجعل العقوبات ذات صبغة وقائية مثل تسليم الطفل إلى والديه أو وضعه بمركز ملاحظة أو مركز صحي إضافة إلى إمكانية مراجعة الأحكام و هي كلها إصلاحات و إجراءات لا تستوجب محام.و حول وجوبية المحامي تضمن فقه القضاء في إطار قرار مؤرخ في 16 أكتوبر 1996 أنه "يستخلص من الفقرة الأخيرة من الفصل 141 من م.ا.ج وجوبية المحامي أمام المحكمة الجنائية و أن تلك الوجوبية تقتضي حسب مدلول النص أن من لم يكلّف محاميا للدفاع عنه تسخر له المحكمة محاميا ينوبه لدى المحكمة الجنائية. و لكن لا بد من التفرقة بين ما عناه المشرّع من ضرورة تسخير محام للدفاع لدى المحكمة الجنائية بالنسبة لمن لم يكلف محاميا ينوبه و بين من كلّف محاميا و حضر المحامي بإعلام النيابة و قدم الملاحظات ثمّ تخلى عنه اختيارا منه مما يجعل المحكمة محقة لمواصلة النظر في القضية حسبما تقتضيه أوراقها دون خرق لأحكام الفصل 141 من م.ا.ج .ويتجلى بوضوح أن ضمان دفاع المتهم عن نفسه و مصالحه من الإجراءات الأساسية في السياسة الجنائية الحديثة ، فقد تضمنت مجلة الإجراءات الجزائية أحكاما عديدة تضمن ممارسة حق الدفاع في إطار مرحلتي التحقيق و المحاكمة.<p> </p>فقرة ثانية: آليات الدفاع:إن دفاع المتهم عن نفسه سواء كان بصفة شخصية أو عن طريق موكله القانوني أو محاميه، يقتضي المشاركة الإيجابية في سير إجراءات التحقيق و المحاكمة سواء على مستوى الدرجة الإبتدائية أو الإستئنافية: هذه المشاركة التي يمكن أن نشير إليها بمقدمات الدفاع (أ) التي تسبق بطبيعتها و سائل الدفاع (ب).<p> </p>أـ مقدمات الدفاع :لقد اقر المشرّع جملة من الإجراءات لفائدة المتهم و محاميه للإستعانة بها في ممارسة حق الدفاع و تتمثل في الإطلاع على ملف الدعوى و في اتصال المحامي بالمتهم و المشاركة في أعمال البحث و الإستقراء.1ـ فيما يخص حق الإطلاع على ملف الدعوى، أقر الفصل 72 فقرة ثالثة م.ا.ج أن للمحامي حق الإطلاع على إجراءات التحقيق قبل تاريخ كل استنطاق بيوم و يعكس هذا الإجراء إرادة المشرّع في تمكين لسان الدفاع من الإلمام بموضوع القضية حتى يتسنى له الوقوف على المطاعن والإخلالات التي ستكون أساسا لدفاعه عن منوبه و حتى يكون دفاعه فعليا و ليس شكليا.على أن قصر اجل الإطلاع الذي حدده المشرّع قد يفرغ هذا الإجراء من جدواه خاصة و أن إعداد مذكرة الدفاع وأسانيدها تقتضي مدّة لازمة و كافية قد يقف هذا الأجل المختصر حاجزا دون تحقيقه .إلاّ أن الأمر مختلف عما هو عليه أمام دائرة الإتهام حيث أن الفصل 114 م.ا.ج يقرّ حق نائب المظنون فيه و القائم بالحق الشخصي في الإطلاع على أوراق القضية إلا انه لم يحصره بآجال معينة على أن إلزام الفقرة الأولى من هذا الفصل دائرة الإتهام بالبت في أجل أسبوع من اتصالها بملف القضية يجعل اجل الإطلاع ممتدا لكل هذه المدّة و في ذلك دعما لحقوق الدفاع خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار الصيغة غير الوجاهية للإجراءات أمام هذه الدائرة.و قد اقرّ الفصل 143 من م.ا.ج لفائدة المحامي حقه في حضور جلسات المرافعة، و إلقاء أسئلة و تقديم ملحوظات. و لعل اكثر الوضعيات حساسية هو وضعية المتهم الموقوف الذي يجد نفسه في حاجة ماسّة للإتصال بمحاميه الذي يرى فيه مفتاح الفرج و كل أمل في استرجاع حريته و الخروج من سجن الإيقاف من جهة و من جهة أخرى يمثل هذا الإتصال بالمحامي السبيل الوحيد أمامه لسماع منوبه و التعرّف على حقيقة الملف و الظروف الحافة بالواقعة. و من ثمة بناء دفاعه على معطيات واقعية و قانونية سليمة.ونورد في هذا الإطار أمر 4 نوفمبر 1988 المتعلق بالنظام الخاص بالسجون في فصوله 9 و 10 و 14 التي تنص على حق الموقوف تحفظيا أو المحكوم عليه في مقابلة المحامي المكلف بالدفاع عنه أو مكاتبته عن طريق إدارة السجن و في نفس السياق نصّ الفصل 70 م.ا.ج أنه يرخص للمظنون فيه الموقوف الإتصال في أي وقت من الأوقات بمحاميه بمجرّد الحضور الأول. وعند المحاكمة يجب على المحكمة المناداة على المحامي. واعتبرت محكمة التعقيب أن هذا الإجراء أساسي يهم النظام العام و أن في الإخلال به هضما لحق الدفاع يجعل الحكم مستهدفا للنقض .<p> </p>ب ـ وسائل الدفاع: يرتبط مبدأ التقاضي على درجتين بمبدأ الصبغة الوجاهية في الإجراءات،هذا المبدأ الأخير الذي يكاد يقترن بمفهوم حقوق الدفاع و خاصة في القضايا الجزائية .و باعتبار أن مبدأ التقاضي على درجتين وجب ترجمته في اغلب الأنظمة القانونية و القضائية الحديثة من خلال آلية الطعن بالإستئناف الذي يعطى بحكم نقله للدعوى إلى الدرجة الثانية بقصد مراجعة الحكم الإبتدائي واقعا و قانونا للمستأنف فرصة إضافية و جوهرية لمناقشة أدلة الحكم الإبتدائي بالإضافة إلى حقه في تقديم وسائل جديدة.<p> </p>1ـ الحق في مناقشة أدلة الحكم الإبتدائي:من الطبيعي أن لقضاء محاكم الدرجة الأولى سواء في إطار التحقيق أو المحاكمة مطلق الإجتهاد في تقدير وقائع الدعوى و أدلتها. و من الطبيعي أيضا أن وظيفة الإستئناف هي مراجعة قضاء محاكم الدرجة الأولى سعيا إلى تقويم ما قد يشوبه من خطأ و تقصير راجع إلى سوء تقدير للوقائع أو سوء تطبيق أو تأويل للقانون، و ذلك من طرف محاكم أعلى درجة تتركب من قضاة يفترض فيهم أنهم اكثر تجربة و علما. و الإستئناف هو وسيلة الصادر ضدّه الحكم الإبتدائي لمناقشة أدلته علّه يصل إلى تقويض أسسه و نقضه.و في نسق مساير لهذا المنحى صدرت عدة قرارات تعقيبية تؤكد هذا التوجه من ذلك ما ورد بالقرار التعقيبي الصادر بتاريخ 20 أفريل 2000 اعتبرت فيه محكمة القانون انه "مما لا جدال فيه أن لدائرة الإتهام على عكس محاكم الأصل أن تأخذ بالأدلة التي تراها و لو لم تكن من الأدلة القاطعة بل يكفي أن تكون حاملة على الإعتقاد بثبوت الإدانة متى عللت رأيها بتعليل قانوني يتماشى مع أوراق التحقيق و يؤدي منطقيا للنتيجة التي انتهت إليها في قرارها بدون تحريف أو تغيير".كما قررت محكمة التعقيب في هذا الإطار "أن القضاء الجزائي يقوم على أساس حرية القاضي في تقدير الأدلّة المعروضة عليه ، كقيام الجريمة و توافر أركانها و لا يناقش فيما ذهب إليه و لا رقابة عليه في ذلك بشرط أن يكون قضاؤه يتماشى مع المنطق و القانون. كما اعتبرت محكمة التعقيب أنه " و لئن كان لمحكمة الموضوع حرية الإجتهاد و التقدير في فهم الوقائع و تقدير الأدلة واستخلاص النتيجة القانونية... إلاّ أنه لا يجب أن تتعسف في تلك السلطة المسندة إليها و إلاّ أضحى قرارها هزيل التعليل و مشوبا بالقصور في التسبيب و غير متناغم مع ما بملف القضية من مؤيدات" و في قرار آخر إعتبرت أنه "لمحكمة الموضوع الحرية المطلقة في تقدير قوّة الأدلة واستخلاص النتائج القانونية منها شريطة أن تعلّل قضاءها تعليلا واضحا متماشيا مع أوراق التحقيق و شاملا للردّ على أدلة الإتهام بردود تتماشى مع المنطق والمعقول حتى تتمكن محكمة التعقيب من مراقبة معقولية استخلاص تلك النتائج التي إنبنى عليها الحكم" .كما اعتبرت مسألة التقدير راجعة بطبيعة الأمر لإجتهاد محكمة الموضوع التي لا تخضع في هذا الصدد لرقابة محكمة التعقيب طالما كانت وجهة نظرها معللة تعليلا سائغا و قانونا مستمدا من عناصر القضية " .و قد خولت محكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 24 نوفمبر 1977 لمحكمة الإستئناف أن تتبنى مستندات الحكم الإبتدائي من حيث مبنى الإدانة و التعويض دون أن يمنعها ذلك من مخالفة محكمة البداية رأيها من حيث توزيع المسؤولية و هو ما يعبر عنه بالسلطة التقديرية الواسعة لهاته المحكمة و التي تتأكد أكثر مع إمكانية تقديم وسائل و أدلة جديدة أمام محكمة الدرجة الثانية .2ـ الحق في تقديم وسائل جديدة:و إن لم يكرّس المشرّع صراحة قاعدة إمكانية تقديم وسائل جديدة لدى الإستئناف ضمن مجلة الإجراءات الجزائية إلا أنه كرّسها صراحة في إطار الفصل 148 م.م.م.ت. في فقرته الأخيرة حيث إقتضى " أنه يمكن الإحتجاج بوسائل جديدة لدى الإستئناف" و يمكن أن نستند إلى الرأي الفقهي الذي يجعل من قواعد الإجراءات المدنية الأصل في مادّة الإجراءات الذي يتعين الرجوع إليه عند إفتقاد قاعدة إجرائية في فروع القوانين الإجرائية الأخرى. و قد سايرت محكمة التعقيب هذا الإتجاه و اعتبرت في أحد قراراتها أنه " خلافا لما تمسك به الطاعنون يمكن الإحتجاج بوسائل جديدة لدى الإستئناف طبق تصريح آخر الفصل 148 المحتج به" .و في قرار مبدئي صادر عن الدوائر المجتمعة ورد أنه " عملا بوحدة القضاء المدني و الجزائي بات من الضروري أن يستنجد بمجلة المرافعات المدنية و التجارية و ذلك لسدّ الفراغ الذي حصل لمجلة الإجراءات الجزائية.تشكل مجلة المرافعات المدنية و التجارية قانون الحق العام في مادة الإجراءات لذا يتعيّن تطبيقها عند معالجة موضوع يهمّ الدوائر المجتمعة للنظر فيها" .وبهذا القرار تكون الدوائر المجتمعة قد حسمت الموضوع ووفّرت على أصحاب الرأي الفقهي الذي ينادي بضرورة الرجوع لمجلة المرافعات المدنية والتجارية لسدّ فراغ في مجلة الاجراءات الجزائية عناء البحث عن أي تبرير.و قد حاول المشرّع التونسي من خلال تنظيمه لمادة الإجراءات الجزائية إيجاد موازنة بين الحرص على حسن سير العدالة الجزائية حتى ينال كل مجرم العقاب الذي خصصه له القانون من جهة و الحرص على توفير ضمانات كافية لدفاع المتّهم عن نفسه من جهة أخرى.
<p> </p>يعتبر مبدأ التقاضي على درجتين في جانب المتقاضي حقا مشروعا لذلك كان لزاما كما هو الحال مع كل الحقوق التي يقرها الدستور و القانون أن يقع تنظيم ممارسة هذا الحق، إذ من المعلوم أنه لا يكفي أن يعترف بحق ما بل لا بدّ من وضع آليات تكفل حماية الحق و تنظيم طرق ممارسته حتى لا يبقى الحق مجرّد مبدأ نظري و بالنتيجة لذلك فإن المركز القانوني للحق يتحدّد بمدى دفاع صاحبه عنه حيث ان حقوق الدفاع تعتبر قوام المحاكمة العادلة. و يعتبر مبدأ التقاضي على درجتين في المادة الجزائية ضمانا هاما للدفاع عن حقوق المتقاضين الشرعية (مبحث أول) فضلا عن كونه يعدّ إحدى الوسائل الضرورية التي تكفل حسن سير العدالة (مبحث ثاني).<p> </p>مبحث أول : حق الدفاع : امتداد للتقاضي على درجتين: تكتسي حقوق الدفاع في الدعوى العامة أهمية كبيرة و هذا ما جعل التشريعات المنظمة للإجراءات الجزائية تهتمّ بهذه المسألة و المقصود بها مجموع الضمانات الممنوحة للمتهم في الدعوى الجزائية و هي ضرورية في سبيل حسن سير القضاء و لتفادي الأخطاء القضائية التي قد تؤدي إلى الحكم على شخص بريء أو تسليط عقاب على متهم يتجاوز ما يستحقه.و قد أجمع شرّاح القانون و فقه القضاء على أن مفهوم حقوق الدفاع يهم النظام العام الأمر الذي جعل كل إجراء مخالف لها باطلا.و يعتبر الحق في إنابة محامي من ابرز مظاهر حقوق الدفاع (فقرة أولى) و هي مرحلة أولية تسبق إعداد آليات الدفاع (فقرة ثانية).<p> </p>فقرة أولى : الحق في إنابة محاميإن حقوق الدفاع تقتضي توفير ما يلزم من الضمانات ليدافع ذو الشبهة عن نفسه بصورة شخصية أو بواسطة محامي محترف و تنص المادّة 12 من الدستور التونسي أن "كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها جميع الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه ".و من أبرز مظاهر حقوق الدفاع، حق المتّهم في إنابة محامي لمساعدته في دحض الأدلة التي تقدمها النيابة العمومية و قد تضمنت مجلة الإجراءات الجزائية جملة من الأحكام كرّس المشرّع التونسي من خلالها الحق في إنابة محامي، كما وجد هذا الإجراء إمتدادا له في المواثيق و العهود الدولية حيث أقرّته المادّة السادسة من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، و كذلك الفقرة الثالثة من المادّة الرّابعة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .وتعدّ المحاماة من ابرز المهن المساعدة على إقامة العدل وأعرقها وبالنظر إلى الدور الأساسي الذي يؤديه المحامون في توفير ضمانات المحاكمة العادلة و المنصفة إعتنى المشرّع التونسي بهذا السلك و نظمه بإصدار قانون 7 سبتمبر 1989 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة. و لقد ركز المشرّع على استقلالية المحامي. و يندرج تطوير المحاماة ضمن دعم حقوق الدفاع في نطاق التوجه العام الرامي إلى تعزيز حقوق المتقاضي في الدفاع.و يتبيّن من خلال هذه النصوص أن للمتّهم الحق في إنابة محامي في كامل مراحل الدعوى سواء في طور التحقيق (أ) او المحاكمة (ب).<p> </p>أ – طــور التحقـيــق :بالرجوع إلى مجلة الإجراءات الجزائية، و تحديدا إلى الفصل 69 منها يتبيّن انه على قاضي التحقيق إعلام ذي الشبهة عند حضوره لأول مرّة، بأن له الحق في ألاّ يجيب إلاّ بمحضر محامي، كما أنه يجب التنصيص على هذا التنبيه بالمحضر.لكن المشرّع التونسي لم يقرّ جزاءا للإخلال بهذا الإجراء. و الرأي عند بعض دارسي القانون أنه إجراء أساسي يهم مصلحة المتهم الشرعية و بالتالي فإن الإخلال به يعتبر هضما لحق الدفاع موجبا لبطلان الإجراءات طبق الفصل 199 من م.ا.ج .و إذا تمسّك ذو الشبهة بحقّه في إنابة محامي و عدم الجواب إلاّ بحضوره، فإنه على حاكم التحقيق إرجاء الإستنطاق إلى أن يحضر نائب ذي الشبهة طبق الفصل 72 من م.ا.ج غير أن الفصل 69 خوّل لقاضي التحقيق إجراء استنطاق في الحين بدون مراعاة الأحكام المذكورة أعلاه إذا كان هناك تأكد أو حالة تلبّس بالجريمة و باستثناء هذه الحالة الخاصة فإن لذي الشبهة الحريّة الكاملة في إختيار من سيدافع عنه و ليس لأي كان أن يفرض عليه محاميا معينا. و عندما يقع الإختيار فعلى قاضي التحقيق إستدعاؤه فإذا لم يحضر المحامي المختار فإن أعمال التحقيق تجرى دون توقّف على حضوره.و تكريسا لحق المتهم في تكليف محام أوجب الفصل 69 المشار إليه على رئيس المحكمة تعيين محام إذا كانت الجريمة موضوع التحقيق جناية أما إذا كانت الجريمة جنحة فإن المشرّع لم يفرض هذا التعيين، و لعل السبب في جعل هذا الإجراء وجوبيا في الجنايات دون سواها يرجع إلى خطورتها و صرامة العقوبات التي تهدد المتهم . و لم يشترط المشرّع شروطا أخرى لتعيين محام لحضور عملية الإستنطاق فلا فرق بين مظنون فيه معوز و آخر غني لأن حق الدفاع مطلق يتساوى أمامه المتهمون الذي تجمعهم نفس الوضعية.و قد استقرّ فقه القضاء على وجوبية المحامي في المادّة الجنائية "يستخلص من الفقرة الأخيرة من الفصل 141 من م.ا.ج وجوبية المحامي أمام المحكمة الجنائية و أن تلك الوجوبية تقتضي حسب مدلول النص أن من لم يكلف محاميا للدفاع عنه تسخّر له المحكمة محاميا ينوبه لدى المحكمة الجنائية".و إذا كان حضور المحامي إجباري في الجنايات أمام قاضي التحقيق فإن الأمر يختلف عمّا هو عليه بالنسبة للجنح و المخالفات باعتبار أن التحقيق فيها غير وجوبي و بالتالي فإن المشرّع لم يفرض تسخير محامي فيها للدفاع عن المتّهم لكن ذلك لم يمنعه من إحاطة المتّهم أثناء الطور التحقيقي بجملة من الإجراءات الأساسية التي من شأنها تدعيم ضمانات المتهم في الدفاع عن نفسه. و يتبيّن ذلك من خلال الفصل 68 م.ا.ج الذي اوجب على قاضي التحقيق استدعاء ذي الشبهة كتابة بالطريقة الإدارية أو بواسطة عدل منفذ و يجب أن يتضّمن الإستدعاء هويّة المتّهم و مكان و تاريخ و ساعة حضوره و نوع التّهمة، و قد اعتبرت محكمة التعقيب أنه يمكن لقاضي التحقيق في صورة التأكد عدم اتباع هذه الطريقة و استدعاء المظنون فيه بالهاتف إذا إقتضت ظروف القضية ذلك و يتبيّن حرص المشرّع التونسي على أن يضمن للمظنون فيه حق الدفاع عن نفسه من خلال الفصل 69 من نفس المجلة الذي ينصّ على أن حاكم التحقيق يعرّف ذا الشبهة بالأفعال المنسوبة إليه و النصوص القانونية المنطبقة عليها... و يجب أن يتيح الإستنطاق لذي الشبهة فرصة إبعاد التّهمة عنه أو الإعتراف بها..." واعتبر فقه القضاء أن إحالة المظنون فيهم من اجل جريمة لم يقع استنطاقهم من اجلها يعدّ إخلالا بمقتضيات الفصل 69 الذي تعلقت أحكامه بمصلحة المتهم الشرعيّة و الإجراءات الأساسية .كما أوجب الفصل 76 من م إ ج على حاكم التحقيق أن يعرض على ذي الشبهة الأشياء المحجوزة ليصرّح هل أنه يعترف بها و ليلاحظ بشأنها ما يراه مفيدا ".و حرصا منه على حماية إجراء الدفاع أقرّ المشرّع التونسي مبدأ الإعانة العدلية، للفقراء و المعوزين و نظمها بمقتضى أمر 13 فيفري 1992 بالنسبة للمحاكم العدلية، حيث أوكل النظر في إسناد هذه الإعانة كاملة أو جزئية للجنة الإعانة العدلية، كما تعرّض لذلك قانون المحاماة عدد 87 لسنة 1989 المؤرخ في 7 سبتمبر 1989 في فصله 136 كما صدر في هذا الإتجاه قانون عدد 2127 لسنة 1994 في 10 اكتوبر 1994، و قد تعلق بمنحة التسخير لفائدة المحامين المتمرّنين المسخرين في قضايا جنائية .و باعتبار الإستئناف يهدف في جوهره إلى إعادة النظر في الدعوى و مراقبة الحكم الصادر فيها واقعا و قانونا بتقييم جديد لعناصر الدعوى و بإمكانية إضافية لمزيد البحث و التحري، فإن مبدأ التقاضي على درجتين لا يمكن حتما أن يؤدي دوره و يحقق جدواه دون أن يعطي تواصلا حقيقيا و فعليا لحقوق الدفاع و خاصة للحق في إنابة محامي لدى الدرجة الثانية و هو الأمر الذي لم يتغافل عنه مشرّعنا الذي أكّـده بصورة صريحة و إن اختلفت في طرقها .و فيما يخص الدرجة الثانية تحقيقا ينص على أنه "لنواب المظنون فيه والقائم بالحق الشخصي حق الإطلاع على أوراق القضية، كما لهم حق تقديم طلبات كتابية" و يضيف الفصل 115 من نفس المحكمة أن أحكام الفصل 114 تنطبق على القضايا المحالة على دائرة الإتهام بموجب الإستئناف و هو ما يفيد بالنتيجة أنّ حضور المحامي كممثل للأطراف و كضمان لحقوقهم في الدفاع قد ضمنه المشرّع و إن كان تواجده معنوي (يعني انه يقتصر على التقارير والمذكرات الكتابية).حيث أن إرادة المشرّع اتجهت إلى إكساء الإجراءات لدى دائرة الإتهام بطابع كتابي و غير وجاهي يميل إلى السرعة في الوقت وإلى إختزال النفقات ومصاريف التقاضي اكثر من التقيّد المفرط بالضمانات و بالحقوق الإجرائية التي قد يفرغها ذلك من محتواها .<p> </p>ب – طور المحاكمة :تمتدّ حقوق الدفاع على مستوى درجتي المحاكمة بمقتضى الإستعانة الوجوبية بالمحامي بالنسبة للجنايات و التي تضمنها الفصل 141 جديد م.ا.ج حيث نصّ في فقرته الأخيرة على أن " الإستعانة بمحام وجوبية أمام المحكمة الإبتدائية المنتصبة بمقرّ محكمة الإستئناف فإذا لم يعيّن المتهم محاميا يعيّن الرئيس من تلقاء نفسه أحد المحامين للدفاع عنه ".و يتبيّن من خلال هذا النص حرص المشرّع على الحفاظ على حريّة المتهم في اختيار محام للدفاع عنه و أن هذا الحق هو مقدّم على حق المحكمة في تعيينه. و قد كرّس المشرّع المصري نفس القاعدة معتبرا أن المتهم إذا اختار محاميا فليس للقاضي أن يعيّن محاميا آخر ليتولى الدفاع عنه إلاّ إذا كان المحامي المختار قد بدا منه ما يدلّ على أنه يعمل على تعطيل سير الدعوى و قد قضت محكمة النقض المصريّة بناءا على ذلك بأنه إذا كان الظاهر من الأوراق أن المتهم سعى جهده في حمل سلطة التحقيق و سلطة المحاكمة على سماع شهود بطلبه، إلى النيابة سماع شاهدين في التحقيق الإبتدائي، ثمّ بطلبه إلى قاضي الإحالة تقرير سماعها، ثمّ بعمله كل ما في وسعه لإعلامهما بالحضور أمام المحكمة بعد أن أحيلت إليها القضية دون أن يأمر قاضي الإحالة بإعلامهما متّبعا في ذلك الإجراءات المنصوص عليها، عندما ردّ المحضر الورقة بدون إعلام بدعوى عدم بيان محلّ سكن الشاهدين مع أن محلّهما مبيّن بتلك الورقة بيانا تامّا، تمسّك هو أمام المحكمة بضرورة سماع هذين الشاهدين، فرفضت المحكمة التأجيل بمقولة أنه غير جاد في طلبه فانسحب محاميه فندبت له المحكمة محاميا غيره، وأحيلت القضية لليوم التالي، و حكمت فيها وقضت عليه بالعقوبة فإنها تكون قد أخلّت بحقّه في الدفاع إذ كان عليها في هذه الحالة أن تجيبه إلى طلبه ولا يسوغ لها أن تعيين محاميا آخر ليدلي بدفاع آخر ". أمّا بالنسبة للجنح و المخالفات فإن الأمر موكول للمتّهم الذي له الحرية الكاملة في الإستعانة بمحام إن رغب في ذلك، على أنّ المشرّع مكن المتهم من ممارسة حقّه في الدفاع عن نفسه حتى بدون وجود محام و يتبين ذلك من خلال جملة من الضمانات يتجلى بيانها كالآتي:<p> </p>1 ـ ضرورة استدعاء المتهم :حدّد المشرّع طريقة الإستدعاء بالفصول من 134 إلى 140 م.ا.ج التي نصت على ضرورة بيان الجريمة المنسوبة للمتهم و المحكمة المحال عليها وتاريخ الجلسة و قد حدّد الفصل 136 من نفس المجلة الأجل الفاصل بين يوم توجيه الإستدعاء و اليوم المعيّن للحضور بالجلسة و هو ثلاثة أيام: أما إذا كان المستدعى قاطنا خارج تراب الجمهورية يكون الأجل ثلاثين يوما و ذلك حتى يتمكن المتّهم من إعداد وسائل دفاعه و تهيئة نفسه لمواجهة الدعوى الموجهة ضدّه.و بالنسبة للمظنون فيه الموقوف فهو يستدعي بواسطة كبير حرّاس السجن.كما نصّ الفصل 140 م.ا.ج على وجوب أن يبيّن بأصل الإستدعاء وبنظيره أو بجذره إسم المكلف بالتبليغ كما يتعين أن يمضي به المستدعى و في صورة الإمتناع من الإمضاء أو عدم القدرة عليه يقع التنصيص على ذلك. و قد اعتبر فقه القضاء أن الإخلال بإجراءات التبليغ يوجب نقض الحكم الذي اعتمدها كما أكد أن عدم إستدعاء المتهم للجلسة المعينة بصفة قانونية ليتمكّن من الدفاع عن حقوقه يجعل الحكم مستهدفا للنقض.<p> </p>2ـ الحضور بالجلسة: يفرض المشرّع على المتّهم الحضور بالجلسة شخصيا إذا كان التتبع من أجل جناية أو جنحة حسب منطوق الفصل 141 م.ا.ج. أما في الجنح التي لا يستوجب عقابا بالسجن أو عندما يقع التتبع بطلب مباشر من القائم بالحق الشخصي فإنه بإمكانه عدم الحضور شخصيا على أن نفس الفصل يجيز للمحكمة دائما أن تأذن بإحضاره شخصيا إذا رأت ذلك لازما و قد صدر في هذا الإطار قرار تعقيبي يكرّس مبدأ التقاضي على درجتين و يكرّس ضمانات المتهم الشرعية و قد اعتبر " إن صدور حكم إستئنافي ضد شخص لم يسبق مقاضاته ابتدائيا من أجل جريمة اقترفها فيه خرق للقانون " .<p> </p>3ـ تغيير وصف الجريمة:إنّ المحكمة الجزائية تتعهد بالأفعال و ليست مقيّدة بالوصف القانوني الذي تعطيه النيابة العمومية أو حاكم التحقيق أو دائرة الإتهام لتلك الأفعال لأنه يمكن للمحكمة أن تغير الوصف القانوني للجريمة المنسوبة للمتهم و قد اقرت الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب هذا المبدأ في قرار لها جاء فيه " أن من مستلزمات هذا النص (الفصل 170 من م.ا.ج) أن الأفعال إذا كانت تشكل جريمة أخرى غير التي تمّ بها التعهد تكون المحكمة مجبرة بالقضاء فيها و يكون حكمها شاملا لكل الأوصاف القانونية للأفعال المطروحة عليها و تفريعا على ذلك لا يجوز رفع دعوى جديدة بوصف آخر بناءا على نفس الأفعال المقضى فيها".و غير بعيد عن هذا الإتجاه استقر على ذلك فقه القضاء المصري و نورد في هذا السياق إحدى القرارات: " الأصل أن محكمة الموضوع لا تتقيّد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العمومية على الفعل المسند إلى المتهم و أن من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع كيوفها وأوصافها و أن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا لأنها و هي تفصل في الدعوى لا تتقيّد بالواقعة في نطاقها الضيّق المرسوم في وصف التهمة المحالة عليها بل أنها مطالبة بالنظر في الواقعة الجنائية التي رفعت بها الدعوى على حقيقتها كما تتبينها من الأوراق ومن التحقيق الذي تجريه بالجلسة، إلاّ أنه يجب أن تلتزم في هذا النطاق بالواقعة المطروحة و إلا ينطوي الوصف الجديد على تحوير لكيان الواقعة المادية التي أقيمت بها الدعوى و لبيانها القانوني و يجاوز نطاق التكييف القانوني للواقعة، أي مجرّد ردّها إلى أصل من نصوص القانون الواجب التطبيق و إلا ينطوي على مساس بكامل عناصر جريمة أخرى لم ترفع بها الدعوى و لم يتناولها التحقيق أو المرافعة... " .و قد كرّست محكمة التعقيب هذه القاعدة صلب القرار المؤرخ في 2 ديسمبر 1992 الذي نص على "أنه من المقرر قانونا أن المحكمة عندما يحال عليها متهم لإرتكاب أفعال معينة تكون مقيّدة بالنظر في خصوص تلك الأفعال ولكنها حرّة في تطبيق الوصف الحقيقي الذي تراه منطبقا عليها على معنى الفصول 169 و 170 و 171 من م.ا.ج و تبعا لذلك فعلى المحكمة أن تطبق في حدود تلك الأفعال الوصف القانوني الذي تراه صحيحا حسبما يمليه ضميرها بشرط التعليل الصحيح المستساغ قانونا و ذلك دون التقيّد بوصف قرار الإحالة " .و إذا كانت إرادة الشارع اتّجهت إلى حماية المظنون فيه و تمكينه من حق الدفاع عن نفسه حتى إن إقتضى الأمر تسخير محام له مثلما ورد بيانه في إطار مجلة الإجراءات الجزائية التي تمثل القانون الجزائي العام فما بالك بالقانون الجزائي الخاص بالأطفال الجانحين حيث ورد بالفصل 77 فقرة ثانية من مجلة حماية الطفل أنه "إذا كانت الأفعال المنسوبة للطفل ذات خطورة بالغة يجب على وكيل الجمهورية تسخير محام إذا لم يسبق للطفل أن إنتدب محاميا للدفاع عنه". و يتبين من خلال هذه الفقرة أن المشرّع أوجب أولا على وكيل الجمهورية هذا التسخير و ربطه من ناحية أخرى بخطورة الأفعال فهل يعني هذا أنه إذا كانت الأفعال أقل خطورة لا تستوجب محاميا؟إن المتمعّن في سياسة المشرّع يلاحظ أن المشرّع في إطار مجلة حماية الطفل تضمن معالم سياسية جنائية وقائية تمنع سقوط الطفل في مهاوي الإنحراف. فقد حرص المشرّع على وضع تدابير رعائية و وقائية للطفل الذي وضعه مهيّأ للإنحراف و ذلك بالتركيز على العمل الوقائي. وترتيبا على ذلك فإن سياسة التجريم الحديثة في تونس تأخذ بعين الإعتبار شخصية مرتكب الفعل الإجرامي و ظروف نشأته و خطورة الفعل المنسوب إليه متخلية عن العديد من المبادئ الزجرية الكلاسيكية.وبالتأمّل في مجلة حماية الطفل نلاحظ أن المشرّع قد ضيق من نطاق الجرائم الخطيرة باعتبار أنه اقر امكانية تجنيح كل الجنايات ما عدا جرائم القتل كما اقر العمل بمبدأ الوساطة لكنه استثنى منها الجنايات و ذلك حسب منطوق الفصل 115 من م.ح.ط ، و ترتيبا على ما تقدّم تبيّن أن ربط تسخير المحامي بالجرائم الخطيرة يستجيب لأهداف المشرّع الذي يراعي مصلحة الطفل الفضلى وجعل العقوبات ذات صبغة وقائية مثل تسليم الطفل إلى والديه أو وضعه بمركز ملاحظة أو مركز صحي إضافة إلى إمكانية مراجعة الأحكام و هي كلها إصلاحات و إجراءات لا تستوجب محام.و حول وجوبية المحامي تضمن فقه القضاء في إطار قرار مؤرخ في 16 أكتوبر 1996 أنه "يستخلص من الفقرة الأخيرة من الفصل 141 من م.ا.ج وجوبية المحامي أمام المحكمة الجنائية و أن تلك الوجوبية تقتضي حسب مدلول النص أن من لم يكلّف محاميا للدفاع عنه تسخر له المحكمة محاميا ينوبه لدى المحكمة الجنائية. و لكن لا بد من التفرقة بين ما عناه المشرّع من ضرورة تسخير محام للدفاع لدى المحكمة الجنائية بالنسبة لمن لم يكلف محاميا ينوبه و بين من كلّف محاميا و حضر المحامي بإعلام النيابة و قدم الملاحظات ثمّ تخلى عنه اختيارا منه مما يجعل المحكمة محقة لمواصلة النظر في القضية حسبما تقتضيه أوراقها دون خرق لأحكام الفصل 141 من م.ا.ج .ويتجلى بوضوح أن ضمان دفاع المتهم عن نفسه و مصالحه من الإجراءات الأساسية في السياسة الجنائية الحديثة ، فقد تضمنت مجلة الإجراءات الجزائية أحكاما عديدة تضمن ممارسة حق الدفاع في إطار مرحلتي التحقيق و المحاكمة.<p> </p>فقرة ثانية: آليات الدفاع:إن دفاع المتهم عن نفسه سواء كان بصفة شخصية أو عن طريق موكله القانوني أو محاميه، يقتضي المشاركة الإيجابية في سير إجراءات التحقيق و المحاكمة سواء على مستوى الدرجة الإبتدائية أو الإستئنافية: هذه المشاركة التي يمكن أن نشير إليها بمقدمات الدفاع (أ) التي تسبق بطبيعتها و سائل الدفاع (ب).<p> </p>أـ مقدمات الدفاع :لقد اقر المشرّع جملة من الإجراءات لفائدة المتهم و محاميه للإستعانة بها في ممارسة حق الدفاع و تتمثل في الإطلاع على ملف الدعوى و في اتصال المحامي بالمتهم و المشاركة في أعمال البحث و الإستقراء.1ـ فيما يخص حق الإطلاع على ملف الدعوى، أقر الفصل 72 فقرة ثالثة م.ا.ج أن للمحامي حق الإطلاع على إجراءات التحقيق قبل تاريخ كل استنطاق بيوم و يعكس هذا الإجراء إرادة المشرّع في تمكين لسان الدفاع من الإلمام بموضوع القضية حتى يتسنى له الوقوف على المطاعن والإخلالات التي ستكون أساسا لدفاعه عن منوبه و حتى يكون دفاعه فعليا و ليس شكليا.على أن قصر اجل الإطلاع الذي حدده المشرّع قد يفرغ هذا الإجراء من جدواه خاصة و أن إعداد مذكرة الدفاع وأسانيدها تقتضي مدّة لازمة و كافية قد يقف هذا الأجل المختصر حاجزا دون تحقيقه .إلاّ أن الأمر مختلف عما هو عليه أمام دائرة الإتهام حيث أن الفصل 114 م.ا.ج يقرّ حق نائب المظنون فيه و القائم بالحق الشخصي في الإطلاع على أوراق القضية إلا انه لم يحصره بآجال معينة على أن إلزام الفقرة الأولى من هذا الفصل دائرة الإتهام بالبت في أجل أسبوع من اتصالها بملف القضية يجعل اجل الإطلاع ممتدا لكل هذه المدّة و في ذلك دعما لحقوق الدفاع خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار الصيغة غير الوجاهية للإجراءات أمام هذه الدائرة.و قد اقرّ الفصل 143 من م.ا.ج لفائدة المحامي حقه في حضور جلسات المرافعة، و إلقاء أسئلة و تقديم ملحوظات. و لعل اكثر الوضعيات حساسية هو وضعية المتهم الموقوف الذي يجد نفسه في حاجة ماسّة للإتصال بمحاميه الذي يرى فيه مفتاح الفرج و كل أمل في استرجاع حريته و الخروج من سجن الإيقاف من جهة و من جهة أخرى يمثل هذا الإتصال بالمحامي السبيل الوحيد أمامه لسماع منوبه و التعرّف على حقيقة الملف و الظروف الحافة بالواقعة. و من ثمة بناء دفاعه على معطيات واقعية و قانونية سليمة.ونورد في هذا الإطار أمر 4 نوفمبر 1988 المتعلق بالنظام الخاص بالسجون في فصوله 9 و 10 و 14 التي تنص على حق الموقوف تحفظيا أو المحكوم عليه في مقابلة المحامي المكلف بالدفاع عنه أو مكاتبته عن طريق إدارة السجن و في نفس السياق نصّ الفصل 70 م.ا.ج أنه يرخص للمظنون فيه الموقوف الإتصال في أي وقت من الأوقات بمحاميه بمجرّد الحضور الأول. وعند المحاكمة يجب على المحكمة المناداة على المحامي. واعتبرت محكمة التعقيب أن هذا الإجراء أساسي يهم النظام العام و أن في الإخلال به هضما لحق الدفاع يجعل الحكم مستهدفا للنقض .<p> </p>ب ـ وسائل الدفاع: يرتبط مبدأ التقاضي على درجتين بمبدأ الصبغة الوجاهية في الإجراءات،هذا المبدأ الأخير الذي يكاد يقترن بمفهوم حقوق الدفاع و خاصة في القضايا الجزائية .و باعتبار أن مبدأ التقاضي على درجتين وجب ترجمته في اغلب الأنظمة القانونية و القضائية الحديثة من خلال آلية الطعن بالإستئناف الذي يعطى بحكم نقله للدعوى إلى الدرجة الثانية بقصد مراجعة الحكم الإبتدائي واقعا و قانونا للمستأنف فرصة إضافية و جوهرية لمناقشة أدلة الحكم الإبتدائي بالإضافة إلى حقه في تقديم وسائل جديدة.<p> </p>1ـ الحق في مناقشة أدلة الحكم الإبتدائي:من الطبيعي أن لقضاء محاكم الدرجة الأولى سواء في إطار التحقيق أو المحاكمة مطلق الإجتهاد في تقدير وقائع الدعوى و أدلتها. و من الطبيعي أيضا أن وظيفة الإستئناف هي مراجعة قضاء محاكم الدرجة الأولى سعيا إلى تقويم ما قد يشوبه من خطأ و تقصير راجع إلى سوء تقدير للوقائع أو سوء تطبيق أو تأويل للقانون، و ذلك من طرف محاكم أعلى درجة تتركب من قضاة يفترض فيهم أنهم اكثر تجربة و علما. و الإستئناف هو وسيلة الصادر ضدّه الحكم الإبتدائي لمناقشة أدلته علّه يصل إلى تقويض أسسه و نقضه.و في نسق مساير لهذا المنحى صدرت عدة قرارات تعقيبية تؤكد هذا التوجه من ذلك ما ورد بالقرار التعقيبي الصادر بتاريخ 20 أفريل 2000 اعتبرت فيه محكمة القانون انه "مما لا جدال فيه أن لدائرة الإتهام على عكس محاكم الأصل أن تأخذ بالأدلة التي تراها و لو لم تكن من الأدلة القاطعة بل يكفي أن تكون حاملة على الإعتقاد بثبوت الإدانة متى عللت رأيها بتعليل قانوني يتماشى مع أوراق التحقيق و يؤدي منطقيا للنتيجة التي انتهت إليها في قرارها بدون تحريف أو تغيير".كما قررت محكمة التعقيب في هذا الإطار "أن القضاء الجزائي يقوم على أساس حرية القاضي في تقدير الأدلّة المعروضة عليه ، كقيام الجريمة و توافر أركانها و لا يناقش فيما ذهب إليه و لا رقابة عليه في ذلك بشرط أن يكون قضاؤه يتماشى مع المنطق و القانون. كما اعتبرت محكمة التعقيب أنه " و لئن كان لمحكمة الموضوع حرية الإجتهاد و التقدير في فهم الوقائع و تقدير الأدلة واستخلاص النتيجة القانونية... إلاّ أنه لا يجب أن تتعسف في تلك السلطة المسندة إليها و إلاّ أضحى قرارها هزيل التعليل و مشوبا بالقصور في التسبيب و غير متناغم مع ما بملف القضية من مؤيدات" و في قرار آخر إعتبرت أنه "لمحكمة الموضوع الحرية المطلقة في تقدير قوّة الأدلة واستخلاص النتائج القانونية منها شريطة أن تعلّل قضاءها تعليلا واضحا متماشيا مع أوراق التحقيق و شاملا للردّ على أدلة الإتهام بردود تتماشى مع المنطق والمعقول حتى تتمكن محكمة التعقيب من مراقبة معقولية استخلاص تلك النتائج التي إنبنى عليها الحكم" .كما اعتبرت مسألة التقدير راجعة بطبيعة الأمر لإجتهاد محكمة الموضوع التي لا تخضع في هذا الصدد لرقابة محكمة التعقيب طالما كانت وجهة نظرها معللة تعليلا سائغا و قانونا مستمدا من عناصر القضية " .و قد خولت محكمة التعقيب في قرارها المؤرخ في 24 نوفمبر 1977 لمحكمة الإستئناف أن تتبنى مستندات الحكم الإبتدائي من حيث مبنى الإدانة و التعويض دون أن يمنعها ذلك من مخالفة محكمة البداية رأيها من حيث توزيع المسؤولية و هو ما يعبر عنه بالسلطة التقديرية الواسعة لهاته المحكمة و التي تتأكد أكثر مع إمكانية تقديم وسائل و أدلة جديدة أمام محكمة الدرجة الثانية .2ـ الحق في تقديم وسائل جديدة:و إن لم يكرّس المشرّع صراحة قاعدة إمكانية تقديم وسائل جديدة لدى الإستئناف ضمن مجلة الإجراءات الجزائية إلا أنه كرّسها صراحة في إطار الفصل 148 م.م.م.ت. في فقرته الأخيرة حيث إقتضى " أنه يمكن الإحتجاج بوسائل جديدة لدى الإستئناف" و يمكن أن نستند إلى الرأي الفقهي الذي يجعل من قواعد الإجراءات المدنية الأصل في مادّة الإجراءات الذي يتعين الرجوع إليه عند إفتقاد قاعدة إجرائية في فروع القوانين الإجرائية الأخرى. و قد سايرت محكمة التعقيب هذا الإتجاه و اعتبرت في أحد قراراتها أنه " خلافا لما تمسك به الطاعنون يمكن الإحتجاج بوسائل جديدة لدى الإستئناف طبق تصريح آخر الفصل 148 المحتج به" .و في قرار مبدئي صادر عن الدوائر المجتمعة ورد أنه " عملا بوحدة القضاء المدني و الجزائي بات من الضروري أن يستنجد بمجلة المرافعات المدنية و التجارية و ذلك لسدّ الفراغ الذي حصل لمجلة الإجراءات الجزائية.تشكل مجلة المرافعات المدنية و التجارية قانون الحق العام في مادة الإجراءات لذا يتعيّن تطبيقها عند معالجة موضوع يهمّ الدوائر المجتمعة للنظر فيها" .وبهذا القرار تكون الدوائر المجتمعة قد حسمت الموضوع ووفّرت على أصحاب الرأي الفقهي الذي ينادي بضرورة الرجوع لمجلة المرافعات المدنية والتجارية لسدّ فراغ في مجلة الاجراءات الجزائية عناء البحث عن أي تبرير.و قد حاول المشرّع التونسي من خلال تنظيمه لمادة الإجراءات الجزائية إيجاد موازنة بين الحرص على حسن سير العدالة الجزائية حتى ينال كل مجرم العقاب الذي خصصه له القانون من جهة و الحرص على توفير ضمانات كافية لدفاع المتّهم عن نفسه من جهة أخرى.